الحكم الذي أصدرته يوم أمس السبت محكمة جنح قصر النيل (أول درجة) بالحبس عامين لنقيب الصحفيين المصريين (يحيي قلاش)، ووكيل النقابة (خالد البلشي)، وسكرتيرها العام (جمال عبد الرحيم)، رغم أنه (مع وقف التنفيذ)، يمثل طعنة جديدة من النظام للجماعة الصحفية في أهم رموزها، وهي النقيب والوكيل والسكرتير العام، الذين كانوا يمارسون دورهم في حماية زملائهم الصحفيين، كما أوجب عليهم قانون النقابة وأعرافها، وهي رسالة مفادها أن النظام لم يعد يقصر ملاحقته على صغار الصحفيين، بل إنه لم يعد يأبه بكبارهم وقادتهم وممثليهم الشرعيين والمنوط بهم حمايتهم، وهدف هذه الرسالة هو ترهيب عموم الصحفيين من المصير ذاته الذي تعرض له قادتهم، وتجنب حدوث هذا المصير عبر الالتزام التام بما ينقل لهم من توجيهات علوية.
اختلفت كثيرا مع الزملاء الثلاثة، وبدرجات متفاوتة، بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، الذي أيدوه، بل كانوا من عرابيه، ومن دعاة الحشد الممهد له، لكنني لا يمكن إلا أن اقف معهم الآن في معركتهم، بل معركتنا جميعا دفاعا عن حرية الصحافة وحرية الوطن.
الصحفيون (القادة) الثلاثة يدفعون ثمن دفاعهم عن حرية الصحافة، وعن كرامة النقابة التي استبيحت واقتحمت لأول مرة في تاريخها، وتم القبض على صحفيين لاذا بها طلبا لحمايتها، وكانا مطاردين بتهمة دفاعهما عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين واللتين تخلت عنهما سلطة السيسي مقابل حفنة من الدولارات للمملكة السعودية، وقد كانت التهمة الرئيسة التي وجهتها النيابة لنقيب الصحفيين وزميليه هي إيواء صحفيين مطلوبين للعدالة، رغم أن تلك النيابة ذاتها لم تلتزم صحيح القانون في استدعاء هذين الصحفيين، وقد كان متوجبا عليها مخاطبة النقابة أولا وفقا لقانون النقابة (76 لسنة 1970) ووفقا لقانون سلطة الصحافة 96 لسنة 1996، ووفقا للبروتوكول الذي وقعته النقابة مع النائب العام في 2010 بضرورة مخاطبة النقابة رسميا والتنسيق معها قبل اتخاذ أية إجراءات بحق أي صحفي.
معاقبة نقيب الصحفيين ووكيل وسكرتير عام النقابة ليست فقط بسبب موضوع الصحفيين الذين لاذا بالنقابة طلبا لحمايتها، ولكن -وهذا هو الأهم- بسبب احتضان النقابة وسلالمها سلسلة من الفعاليات المناهضة لسلطة السيسي حتى وإن لم يكن الاحتضان رسميا أو بموافقة النقابة بل في غالبية الأحيان دون رضاها، ومن ذلك مظاهرات جمعة الأرض في 15 إبريل 2016، وما سبقها أو لحقها من وقفات على سلالم النقابة للعديد من الفئات المتضررة سواء كانوا صحفيين يدافعون عن زملائهم السجناء أو صحفهم وقنواتهم المغلقة، أو عمال يطالبون بحقوق معيشية، أو حملة ماجستير ودكتوراه يطالبون بحقهم في التوظف، وكانت القشة التي قصمت ظهر النظام هي ذلك الحشد الكبير الذي شهدته الجمعية العمومية غير العادية للصحفيين يوم 4 مايو الماضي ردا على اقتحام نقابتهم، وما اتخذ من قرارات وتوصيات في تلك الجمعية حملت السيسي مباشرة المسئولية عن جريمة اقتحام النقابة، وطالبت باعتذار رسمي عن ذلك، ودعت الصحف لنشر صورة سلبية لوزير الداخلية (عفريتة)، صحيح أن النقيب ومجلس النقابة تجاوبا مع ضغوط التهدئة وتنازلت النقابة عن تحميل السيسي للمسئولية والمطالبة بالاعتذار، لكن ذلك لم يشفع لهم في النهاية في مواجهة قرار علوي بتأديبهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم من عموم الصحفيين.
لقد أصبحت "سلالم" نقابة الصحفيين هي المتنفس الوحيد للمقهورين والمظلومين في مصر، وأصبحت تلك "السلالم" تمثل غصة لسلطة قامت على الغصب، والقهر، ولا تقبل أي تعبير عن الرأي مهما كان سلميا، وبالتالي فإن السلطة تريد التخلص من "صداع" تلك السلالم، ولأن هدمها صعب هندسيا، فلا أقل من هدمها معنويا، وذلك بوضع نقيب الصحفيين شخصيا ووكيل وسكرتير عام النقابة تحت ضغط دائم من خلال هذا الحكم، حيث أن الحكم بالحبس مع وقف التنفيذ يعني أنه سيظل سيفا مسلطا على رقاب النقيب وزميليه، وسيتم تطبيق الحكم في حال صدور حكم جديد.
ليس المجال مناسبا لمعاتبة نقيب الصحفيين ومجلسه على تقصيرهم بحق زملائهم الصحفيين السجناء، وهو ما شجع السلطة على المزيد من القمع والحبس حتى طال أعلى الرؤوس، ولكن واجب الوقت الآن هو تضافر كل الجهود دفاعا عن حرية الصحافة التي تعتبر عنوانا لكل الحريات في مواجهة حملة حكومية منظمة تستهدف القضاء المبرم عليها، وحرمان الشعب منها حتى تنعم تلك السلطة بما اغتصبته من الشعب، وما تحصلت عليه من دول وحكومات معادية للحرية والديمقراطية وتخشى انتقال عدواها.
على الجماعة الصحفية بشكل عام أن تدرك الآن أنها ستواجه المزيد من المشاكل الأمنية والاقتصادية في ظل هذه السلطة المعادية بالفطرة لها، وعليها أن تتوقع المزيد من القيود على حرية الصحافة، وحبس المزيد من الصحفيين، وغلق المزيد من الصحف والقنوات، وهي ستسعى لشرعنة ذلك عبر قانون الإعلام الذي سيناقشه مجلس النواب متجاهلا مشروع القانون الموحد الذي أعدته نقابة الصحفيين، كما أن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة التي اتخذتها السلطة بتعويم الجنيه وإلغاء الدعم ستنعكس سلبا على سوق الصحافة المصرية وستتسبب في تشريد المزيد من الصحفيين والإعلاميين، وتراجع قدرتهم المالية عن مواجهة أعباء الحياة.
هل يمكن اعتبار ما حدث انتصارا للسلطة في مواجهة الصحافة؟ بالتأكيد لا يمكن اعتبار ذلك انتصارا إلا بالمفهوم العسكري الذي يستخدم آلة القمع في مواجهة خصم لا يملك إلا القلم، الانتصار الحقيقي حين تنجح السلطة -أي سلطة- في حشد الشعب خلفها في مواجهة الصحافة مثلا، وهو مالم ولن يحدث، بالعكس فإن تيار الاستقلال والحرية في الوسط الإعلامي كسب بعد هذه الجولات الكثير من الأنصار الذين كانوا سلفا من داعمي نظام السيسي، وحين يتضاعف عدد هؤلاء سيمكن كسب المعركة لصالح حرية الصحافة وحرية الوطن، وهذه سنة النضال.