بات من الواضح الآن أن مبادرة الرئيس
التونسي قائد
السبسي حول "حكومة وحدة وطنية" ودعوته على وجه التخصيص "المنظمات الوطنية"، لاسيما اتحاد الشغل للمشاركة في حكومة جديدة دون اشتراط رئاستها من رئيس الحكومة الحالي الحبيب الصيد، بات من الواضح الآن أنه لم يتم إعلانها بعد إنضاجها من خلال مشاورات مع المعنيين الأساسيين بها. بل تم إعلانها أساسا دون أي تشاور جدي لا مع اتحاد الشغل نفسه، ولا مع أحزاب التحالف الداعم للسبسي، وأهمها
حركة النهضة، ولا أصلا بالتشاور مع رئيس الحكومة الذي قام السبسي عمليا بإهانته بشكل غير مقبول، من خلال التلويح علنا بإزاحته قبل حتى إنضاج المبادرة، والإشارة إليه دون حتى ذكر اسمه فقط بلفظ "هذا".
اتحاد الشغل أعلن رفضه للمبادرة منذ صدور أخبار غير رسمية قبل إعلان السبسي الرسمي عنها، من خلال حوار تلفزي مساء يوم الخميس. رئيس حركة النهضة، للمفارقة، أعلن قبل يوم من المبادرة أن "دعم الحبيب الصيد واجب وطني"، وأكد بعد إعلان السبسي أن الأخير لم يستشره في مبادرته. الصيد نفسه أكد أنه علم قبيل ساعات معدودة فقط بالمبادرة. في حين قام رضا بلحاج، قيادي بارز في حزب السبسي، بانتقاد الأخير واعتبر أنه لا يملك الصلاحيات الدستورية لمثل هذه المبادرة.
السبسي قام هنا بقفزة في المجهول، في سلوك غير مسؤول، الأرجح أن الهدف الأساسي منه هو إخلاء نفسه من أي مسؤولية. فبعد كل الوعود الوهمية، وأساسا الأكاذيب خلال حملة انتخابية تشويهية استمرت سنتين، وبعد تنصله من مسؤولية الحكم تحت عنوان "الوفاق الوطني"، يريد الآن تعميم الفشل على أكثر ما أمكن من الأطراف السياسية وخاصة الاجتماعية. قال أنصار السبسي دائما إنه "صاحب خبرة كبيرة". والحقيقة أنه "خبير" لكن في التنصل من المسؤولية. رأينا ذلك في تاريخ تونس المعاصر سابقا. رأيناه في الفترة الأخيرة خاصة لبورقيبة. عندما كان منهج الحكم هو تنصل "الزعيم" من المسؤولية، وتقديم أكباش فداء متواترين للمحرقة حتى يبقى "الزعيم". إذا وجدت أي خبرة للسبسي فهي هنا لا غير.
تخيم على تونس الآن أجواء مشابهة، ولو أنها غير مطابقة، لمرحلة الثمانينيات. بما فيها من تأزم اقتصادي واجتماعي واهتراء سياسي، وما يشبه التخريف والقداسة الكاريكاتورية. العملة التونسية الدينار في مسار انحدار خطير لم يسبق له مثال في تاريخ البلاد، حيث قارب 2.4 لليورو و2.1 للدولار. وهذا يعني عمليا تزايد قادم لنسب التضخم ولكلفة التوريد خاصة في سلع أساسية. بعض الاقتصاديين يتحدثون في الكواليس عن صعوبات في خلاص الأجور في الأشهر القادمة. حتى بعض الاقتصاديين الذين يتجنبون عادة التعبير علنا عن أي مواقف حادة، مثل فاضل عبد الكافي، صاحب أهم شركات المعاملات في البورصة، صرح منذ أيام أننا بصدد "وضع كارثي". والأزمة مع اتحاد الشغل تتصاعد خاصة على خلفية قانون التقاعد الاجتماعي، الذي قررت الحكومة أن تفرض توجها أحاديا والتنصل من التزامات سابقة مع المنظمة النقابية.
اتحاد الشغل وهو الطرف الاجتماعي الأكثر وزنا، سيكون في واجهة الأحداث موضوعيا؛ ولهذا ركز السبسي دعوته له في تجاهل للأطراف السياسية حتى الحليفة له. يبقى أن المنظمة النقابية بصدد التحضير لمؤتمرها خلال السنة القادمة، ومن الصعب جدا أن تغامر بالدخول في حكومة غير واضحة المعالم ودون رؤية وفي الظروف الراهنة. ولهذا عبر أمينها العام بشكل سريع عن رفضه المشاركة في أي "حكومة وحدة وطنية".
الأجواء في القصر تعكس حالة من الشلل والكسل العام. موظفو القصر الرئاسي يعودون إلى منازلهم في وقت مبكر، حيث لا توجد أنشطة جدية ومكثفة لرئيس البلاد المنشغل بأمور أخرى على ما يبدو. منها مثلا حرص خاص على تعميم تماثيل الرئيس الراحل بورقيبة على كامل التراب الوطني، دشن منذ أيام في سياق فيه الكثير من التطبيل نصبا لبورقيبة وسط البلاد بوصفه "إنجازا". تناقل الناس تكلفة الصب التي تجاوزت 650 ألف دينار معددة الأشياء البديلة التي كان يمكن القيام بها ذات الفائدة للمواطنين عوض هذا النص. المشكل أن تركيز صورة حكم السبسي في تمثال بورقيبة، سيؤدي إلى تكثف غضب الناس في صورة الأخير.
الضحايا الآخرون للسلوك غير المسؤول لبورقيبة حركة النهضة، وخاصة النهج الذي يقوده داخلها رئيس الحركة. هذا النهج الذي وضع كل بيض الحزب في سلة "التوافق" وتحديدا في سلة السبسي، هذه الثقة غير المحدودة التي تدعمت بعد حضور السبسي في مؤتمر النهضة منذ أسابيع، لا يبدو أنها خيار حكيم. المشكل الأساسي في هذا التصور هو حصر "الاستئصال" و"الغدر" في بعض الكتل المنتسبة لـ"اليسار"، متجاهلة تاريخا طويلا من "الغدر" و"الاستئصال" تحت إشراف وبمبادرة من "السبسي" ومدرسته من "الدستوريين".
لكن الضحية الأكبر لسلوك السبسي غير المسؤول هو الدولة ومن ورائها البلاد. من سيحترم الآن رئيس الحكومة ويقبل الائتمار بأوامره؟ من سيحترم وزراء دعا السبسي على الهواء لتغييرهم من قبل اتحاد الشغل، خاصة وزراء حزبه المنخرطين في مواجهة مع اتحاد الشغل، خاصة وزراء الصحة والتربية والشؤون الاجتماعية؟ كيف ستعمل الإدارة الآن وهي على وقع تغيير حكومي وشيك وعدم وضوح في الرؤية السياسية؟
رئيس الدولة شخصيا الآن أصبح عقبة أمام استقرار الدولة والبلاد، وأصبح يشكل بسلوكياته المضطربة وغير المسؤولة خطرا جديا على الانتقال الديمقراطي وضوابط الدستور. على كل القوى
الديمقراطية والاجتماعية والوطنية التنادي لتدارس خطة واضحة تحمي تونس، بعيدا عن كل الخلافات وبعيدا عن الأنا المتضخمة للسبسي وأجندته الشخصية. حصر أضراره على الأقل أصبح مهمة أساسية في تونس.