يبدو أن الأستاذ لطفي زيتون، القيادي في
النهضة التونسية، في مقالته الموسومة بـ "رسالةالمؤتمرالعاشر"، والمنشورة في عربي21، غير مقتنع بأن التحول الذي عبرته النهضة في مؤتمرها العاشر يمكن توصيفه بالفصل بين السياسي والدعوي، فقد ذهب إلى أن هذا التوصيف من اختراع الإعلام، وأن هذه العبارة غامضة وأثارت سوء الفهم لدى أبناء النهضة وجمهورها.
ولكن النهضة، بحسب ما يقول، لم تنتقل من حركة إسلامية إلى حركة لائكية، كما أنها لم تنقسم إجرائيًّا ووظيفيًّا بين جهازين دعوي وسياسي، إذ إن هذا التقسيم من شأنه–بحسب الأستاذ زيتون- أن يثير المخاوف بإمكان إنتاج النظام الشمولي من جديد، ولكنها أيضًا لم تَبقَ على ما هي عليه، وكأنه يقول إنها لم تتحول إلى حركة علمانية، ولكنها لم تظل حركة إسلامية، وفي النتيجة فإنّه لم يبدد الالتباس الذي أثارته "عبارة الإعلام"، وإنما أضاف خطابًا آخر إلى جانب خطابات النهضة المتعددة، بما يشير إلى حالة ارتباك وتدافع داخلي، كما يشير إلى تعدد الأوساط المستهدفة بالخطاب، والرغبة في تمرير التحول على جماهير النهضة المعترضة، أو المتسائلة بخصوص التحول.
وعلى أية حال، وإذ نسلّم بأن الممارسة السياسية المحلية، والخدمة التنموية التنافسية، لا ينبغي أن تستدعي الدين في سياقها، فإن هذا لا يكون إلا حين تسوية الموقف من الدولة وبنيتها وطبيعتها وحدودها المجتمعية وموقعها من قضايا الأمة العابرة لحالة التجزئة وماهية السياسة إن كانت مرجعية لذاتها، أم تابعة لمرجعية مفارقة، وكذلك حسم الموقف من حضور الدين في المجال العام، إذ إنّ هذه الدولة قد انبنت بقوة فوقية قهرية في لحظة استعمارية، وفي لحظة قطيعة حضارية، وهي وإن صارت قضية داخلية بعدما استُدخلت الحداثة الغربية إلى مجالنا العربي الإسلامي بالقوة القهرية، فإنها لم تكن في كاملها نتاج سيرورة ذاتية طبيعية، وهي على هذا الأساس، وكنموذج، تفتقر إلى القدرة التمثيلية الكاملة، فكيف حينما تتسم بالطابع الوحشي الاستئصالي الإقصائي، إن في طبيعة الحكم بإغلاق مجال التداول السياسي، أو في الموقف من الدين، الذي أعادت تعريفه بما يجور على ضمائر الناس وأخصّ حرماتهم؟!
ولأنَّ مسار هذه القضية لم يكن بمحض الفعل والتدافع الذاتي، ولأن سلوك الدولة تلبّس بالكثير من فعل القهر والظلم، فإنّ طبيعة الأشياء تقتضي مدافعة هذا النموذج، والاحتجاج على طغيانه على ضمائر الناس وعلى حُرماتهم وأعراضهم، وهذا الاحتجاج سلوك طبيعي تقتضيه سنّة الأشياء،بالقدر الذي توجبه الشريعة من جهة النهي عن المنكر والطغيان، فأصل المشكلة التي نجم عنها التوتر هو بنية الدولة وسلوكها الطغياني، لا "سجن الإسلام الاحتجاجي"، ولا تسمية "الإسلام الاحتجاجي"، ومن المغالطة التاريخية، والجور على كفاح الحركة الإسلامية، قلب الصورة على النحو الذي يجعل التسمية أصل المشكلة، وأن الدولة لم تفعل أكثر من تغذية تلك المشكلة القائمة في ذاتها!
وإذا كانت بعض أطراف النهضة، ترى القبول ببنية الدولة وحدودها وعلاقتها بالدين على النحو القائم، والمنافسة السياسية على هذا الأساس، سواء لاعتبار الضرورة والظرف الراهن، أو كرؤية أساسية تُسلّم بالنموذج القائم نموذجًا نهائيًّا، فإن هذا لا يتطلب الاعتذار عن التاريخ النضالي للحركة، ولا تبرئة الدولة، أو التخفيف من مسؤوليتها، ولا اختزال المشكلة، أو اعتبار أصلها في تسمية "
الإسلام السياسي" التي أطلقتها بعض الأوساط الأكاديمية الغربية على الحركة كما يقول زيتون، ثم تصوير الحلّ بالخروج من سجن التسمية التي لم تخترها الحركة، في مفارقة عجيبة وكأن الحركة قادرة على إلزام من سمّاها دون إرادتها بتصور جديد عنها، إلا إذا كان المقصود التغيير الجذري في المسمّى لا في مجرد التسمية، في رهان غير مضمون على رضا واقتناع الغربيين وخصوم الحركة، الذين عرفوا الآن فاعلية الابتزاز جيدًا.
ولا يخلو اختزال المشكلة في التسمية من إدانة كل من اندرج في هذه التسمية، ويعاني صراعًا مع الدولة في بلاد أخرى غير تونس، إذ يفترض هذا الاختزال أن المشكلة في "سجن الإسلام السياسي"الذي "يجعل من الإسلام أداة للصراع السياسي والتنازع بين الدولة وقطاع من المجتمع وينزع عنه صفة المرجعية الجامعة"، وكأن المشكلة لم تكن في الأساس في الدولة، وكأن هناك اتفاق حقيقي على كون الإسلام مرجعية جامعة (إلا إذا كان المطلوب الموافقة من أول يوم على الإسلام الذي تعرّفه وتحدّده الدولة!)، وكأن الظلم غير موجود أصالة، ولكن الموجود هو فقط أخطاء الإسلاميين وسجنهم الذي انحبسوا فيه، وكأن الدولة لا تستهدف إلا من "جعل الإسلام أداة للصراع السياسي"، والحديث هنا عن الدولة العربية عمومًا، لا عن الدولة التونسية فحسب، إذا كان ثمة من يرى أن الدولة التونسية قد تغيرت فعليًّا بعد الثورة، ولم تعد تضيق بالمعارضات الجادّة إلا بالمحبوسين في "سجن الإسلام السياسي"، وهم الذين عليهم أن يغيّروا أنفسهم الآن!
وإذا كان الإسلام الجامع هو ذلك الذي تعرّفه الدولة فمن الطبيعي القول بعد ذلك "فكل حزب أو شخص يقترب من الإسلام بقدر ما يقترب من الدولة ويخدمها" في حالة تقديس مفرطة للدولة تجعلها قسيمًا للإسلام، أو واحدًا من معانيه المتجسّدة، وكيف لا إذا كانت الدولة هي المستأمنة على الإسلام، إسلامها هي، كما عرّفته هي، وحدّدته هي، ثم ليس على الناس بعد ذلك للاقتراب من الإسلام المنزّل سوى الاقتراب من إسلام الدولة، في احتكار جديد للإسلام، ووقوع فيما يعاب على بعض الإسلاميين الذين استبطنوا شعورًا بامتلاك الإسلام، إذ ينتقد الأستاذ زيتون الذين يتحدثون عن التخلي عن المرجعية الإسلامية بقوله: "أما عن الذين يتحدثون عن التخلي عن المرجعية الإسلامية فنقول لهم إن الإسلام ليس ملكًا لحزب أوجماعة"، ولكن يبدو أنه ملك الدولة، أو هو عين الدولة!
وأخيرًا، ومنعًا لسوء الفهم، فليست هذه المقالة دعوة للمواجهة مع الدولة في تونس، إذ لا ينبغي تحميل تونس كبلد، والنهضة كحركة، فوق طاقتها، فالمواجهة في تونس لن تكون مؤثّرة على المجال العربي، على العكس من الصراع الجاري في بعض دول المشرق العربي المركزية والأكثر قربًا من المشروع الاستعماري المتقدم في بلادنا (إسرائيل)، والذي ستحسم نتائجه الكثير من القضايا المفتوحة في كل المجال العربي،كما أن الفصل الوظيفي بين الدعوي والسياسي ليس محل استقباح بالضرورة، والتعامل مع الدولة والأنماط السياسية المنبثقة عنها ليس مرفوضًا في ذاته، وقد ثبت في اللحظة التاريخية الجارية أن قضية الأمة أكبر من الإسلاميين مجتمعين، وأكثر تعقيدًا من قدراتهم وتصوراتهم، ولكن الإشكال في المغالطات التي تجور على التاريخ والحقيقة وأصل المشكلة.