من أكثر المطبات التي وقعت فيها أطراف سياسية عديدة في
تونس، إقامة البرنامج الحزبي على أساس "الضد". حيث لا يتم التركيز على البدائل المقترحة بقدر ما يتم التركيز على الضدية تجاه طرف أو أطراف أخرى، بما هي أطراف شيطانية/ظلامية. لا شك أنه لا توجد سياسة دون صراع، لكن بذات التأكيد مقتل السياسة اختزالها في الصراع. سنحاول هنا تقديم إطار نظري لما نرى أنه المشكل، ومن ثمة ما يمكن أن يمثل حلولا وبدائل للوضع الإشكالي، وتقريبا المتأزم الراهن في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقة في الدولة ومؤسساتها.
بالنسبة للوضع الإشكالي الحالي في اعتقادي يتمثل أساسا في المحورين التاليين:
أولا، دولة، حتى بالانتخاب الحر، تخدم فئات خاصة بيروقراطية هي بدورها تخدم فئات خاصة اجتماعية. إدارة مركزية معقدة تستدعي الفساد وتثبته مؤسساتيا. والأكثر من ذلك تحد من أي ملكات تجديد وتطور في هذه البيروقراطية، ومن قدرتها على الرسكلة والتعلم ولا توفر لها أجورا تنافسية تحصنها أمام إغراء المجالات الخاصة.
الديمقراطية الانتخابية الراهنة تتماهى مع دمقرطة الفساد. وفي الوقت الذي كان فيه الفساد مركزيا في دولة الاستبداد، تحلل ودخل ما يشبه الفوضى أو "الدمقرطة" في ظل الديمقراطية الانتخابية. الفساد المركزي كان يوزع منافعه بذهنية زبونية بشكل متفاوت حسب التراتبية الإدارية بعطايا عينية، والأكثر عطايا في شكل ترقيات ومنح وتوظيف على أساس عائلي، أو في الحد الأدنى ضمان استمرار العمل.
أسقطت الثورة عائلة الحكم والفساد المركزي وأطلقت حرية العمل والمبادرة للوبيات البيروقراطية في تفاعل خلاق مع لوبيات المصالح الخاصة، التي ترعرعت على نواحي عائلة الحكم، لتتم على هذا النحو دمقرطة الفساد. الديمقراطية الانتخابية تنظم هذه العلاقات وهذا التفاعل ولا تتناقض معه. فهي توفر مجالا للتنافس من خلال المراهنة على كل طرف سياسي مستعد لخدمة دمقرطة الفساد.
هذا الإطار سمح بتفاقم وضع سابق وهو هيمنة التصورات والسياسات المرجعية العامة للمؤسسات المالية الدولية. ضعف دولة ما بعد الثورة سمح بكسل أكبر لبيروقراطية كانت تعمل تحت الخوف أساسا. وعموما أصبح من الدارج الحديث عن تطابق بين "الإصلاحات" التي تستشرفها اللوبيات النافذة في البيروقراطية، مع تلك التي تستشرفها المؤسسات الدولية، كأن الأمر ناتج عن توارد ذهني ورهين الصدفة. وعموما تقوم المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي) بوضع الإطار الاستراتيجي للسياسة العامة للدولة ("الإصلاحات الواجب القيام بها")، وتقوم التجمعات السياسية والدولية بصياغة اتفاقيات اقتصادية في إطارها، مثل اتفاقية ALECA التي يتم التفاوض عليها الآن.
ثانيا، اقتصاد يستعين ببيروقراطية مركزية واسعة وثقيلة لخدمة فئة اجتماعية محددة، متشابكة أحيانا (في إطار عقود سمسرة) ومتباينة أحيانا أخرى مع شبكة استثمارية أجنبية تسمح بها بشكل متزايد المعاهدات الدولية في تواصل مع الاتفاقيات السابقة. هنا أعتقد أن دراسة البنك الدولي سنة 2014 حول القطاع الخاص الذي تتحكم فيه شبكة لوبيات وليس "خاصا" إلا بمعنى امتلاكه من فئة مميزة بقوة نفوذها عبر الدولة. اقتصاد ريعي يقوم على البيع والشراء وليس على القيمة المضافة؛ حيث يصبح الاستثمار المنهجي اللامعقول في سلسلة بناءات تحت عنوان "نزل"، وفي إطار منظومة سياحة فقيرة ثقل "الإنتاج"، ومن ثمة يغترب معنى الإنتاج ذاته ويتم تهميش قطاعي الإنتاج التاريخيين الفلاحة والصناعة، لمصلحة قطاع "خدمات" متخلف. اقتصاد لاديمقراطي بمعنى أنه يسمح بالرخاء فقط لقلة محددة، ليس على أساس قدرتها على الإنتاج الفعلي، بل على أساس تهميشها للإنتاج.
في المحصلة الواقع التونسي الذي أدى إلى ثورة واضطراب متواصلين، هو في النهاية تركيبة هجينة تتمثل في دولة بيروقراطية متضخمة، تخضع لشبكة مصالح مشتركة بين لوبيات بيروقراطية ولوبيات المصالح الخاصة، لا يمكن أن تحقق تنمية المجتمع ومن ثمة ضمان الاستقرار بقدر ما تعمق باستمرار الفساد والفقر والتفاوت الاجتماعي. المشكل في تونس ليس إجرائيا شكليا، بل هيكليا وبهذا المعنى يتعلق بمساءلة منوال التنمية وليس بترميمه. ورغم أن الجميع تقريبا يردد ضرورة "تغيير منوال التنمية"، إلا أن الحلول المقترحة هي التي تكشف فعليا من مع تغييره ومن مع ترميمه.
في المقابل يتمثل الإطار النظري في الحلول فيما يلي: دمقرطة الدولة والاقتصاد الديمقراطي معا وبتفاعل جدلي، يحلان المسألتين الأكثر إلحاحا في السياق التونسي.
أولا، دمقرطة الدولة لحل مسألة إدارة الشأن العام: تحققت في تونس الديمقراطية الانتخابية لكن لم تتحقق دمقرطة الدولة. تم إرساء آلية الانتخاب الحر، لكن لم تتوفر بعد الشروط ليتحول جهاز الدولة من جهاز (الفئة) إلى جهاز الشعب. الديمقراطية الانتخابية دون دمقرطة الدولة تؤدي إلى ديمقراطية فاسدة. وضرب احتكار الدولة من فئة المصالح الخاصة لتسترجع الدولة هويتها المفترضة، أي جهاز خدمة الشأن العام. دمقرطة الدولة بمعنى آخر هو تحقيق الدولة. وتحقيق الدولة لن يكون ممكنا إلا إذا كان بجعلها تشاركية. وبمعنى آخر تتحقق الدولة من خلال تحللها في شبكة حوكمة مواطنية موسعة. تتحقق الدولة عندما تتجه نحو مسار يقلص في التسيير التراتبي العمودي إلى التشبيك الأفقي. في المحصلة الدولة المركزية تسعى للمحافظة على الديمقراطية الانتخابية. وفي المقابل الدولة الديمقراطية تسعى لفرض الدولة اللامركزية. دمقرطة الدولة تستوجب مكافحة الفساد والشفافية، في حين أن الديمقراطية الانتخابية تتعايش مع الفساد بل تحتاجه وتغذيه.
ثانيا: "الاقتصاد الديمقراطي" لحل مسألة الحاجة الاقتصادية:
مدرسة الاقتصاد الديمقراطي (economic democracy) بما هي طريق تجريبي ثالث ضمن ظروف "دولة نامية" بين الاقتصاد الذي تهيمن عليه الدولة المركزية والاقتصاد المخطط (في نموذجه الشيوعي بشكل خاص)، والتجربة الرأسمالية في نموذجها "النيوليبرالي" التي تكرس منطق خدمة الدولة للأثرياء وترك البقية تحت رحمة اعتباطية السوق.
الاقتصاد الديمقراطي مشروط بدمقرطة الدولة ليحرر الاقتصاد من هيمنة شبكة المصالح المشتركة للوبيات الخاصة والبيروقراطية. بهذا المعنى يحرر الدولة من توظيف جهازها لمصالح لوبيات خاصة، ويحرر المستثمر الخاص من ابتزاز اللوبيات البيروقراطية واحتكار وهيمنة اللوبيات الخاصة المستفيدة من الفساد البيروقراطي. تحرير الدولة يسمح بحوكمة جدية شفافة وجدوى استثمارية للمؤسسات العمومية الاستراتيجية، التي يمثل نجاحها ضمانة لرعاية الدولة للشأن العام ويسمح بمراقبة تعديلية عادلة ولازبونية لمجال الاستثمار الخاص. وتحرير الاستثمار الخاص على أساس الكفاءة والقيمة المضافة يسمح بتحرير القوة الخلاقة والإيجابية لاقتصاد السوق ولقوى الإنتاج.
ومن النماذج العملية في الاقتصاد الديمقراطي: تحرير الاستثمار الخاص لاسيما الصغير والمتوسط كآلية أساسية للتشغيل عبر دعم نموذج "المؤسسة الاستثمارية التشاركية" (cooperatives) عوض "الشركات" (corporations)، بالاستئناس هنا بتجارب هذه المؤسسات العريقة والفعالة ضمن السياق الرأسمالي نفسه في عدد من الدول، مثل: إسبانيا وإيطاليا. ويمكن هنا تقديم حوافز بنكية وعمومية (بما في ذلك توفير الدراسات) خاصة لـ"التشاركيات" التي تجمع عددا من حاملي الشهادات العليا في البلديات الأكثر فقرا في تونس.
الفكرة الأساسية هنا أن "التشاركية" تخدم أعضاءها ومنسجمة مع المصلحة العامة، في حين "الشركة" تخدم الربح الدائم ولا تنسجم بالضرورة مع المصلحة العامة. وهذا يعني دمقرطة الشركات، أو دمقرطة رأس المال الخاص. لا يمكن إلا أن ندعم مطلب النيوليبرالية في مراقبة الدولة وكشف بيروقراطيتها أمام أي تعديل مواطني. لكن ذلك نصف الخصم، الخصم الآخر هو الدكتاتورية المقنعة في تسيير رأس المال الخاص، والمحدودية الكبيرة في شفافيتها بما يتيح احتمالات التحيل والفساد، بل والإضرار بالسوق بدافع الربح الجشع.
تم تحديد سبعة مبادئ لهذا النموذج في لائحة أصدرتها مؤسسة "روشدايل" البريطانية سنة 1844 وتم تحديثها سنة 1996 في لائحة الاتحاد الدولي للتشاركيات. وهي كما يلي: العضوية التطوعية والمفتوحة، المراقبة الديمقراطية (صوت لكل عضو)، مساهمة الأعضاء في رأس المال، استقلالية، تدريب وتعليم اأعضاء والمجتمع في مبادئ "التشاركيات"، التعاون بين "التشاركيات"، وأخيرا وليس آخرا الاهتمام بالمجتمع.
من أشهر الأمثلة على "التشاركيات" الناجحة والعريقة مؤسستي "ليغاكوب" (Legacoop) الإيطالية و"موندراغون" (Mondragon) الإسبانية.