كتاب عربي 21

تونس حَابْسَة وتْمَرْكِي

1300x600
يضرب التونسيون مثلا لمن يعتزم أمرا ولا يتقدم في إنجازه بل يخسر وهو يتوهم الفَلاَحَ فيقال "حابسة وتمركي" تشبيها بسيارة التاكسي التي تقع في اختناق مروري فيظل عدادها شغالا والراكب في مكانه لا يتقدم ولكنه يدفع الكلفة. فالسيارة حابسة أي متوقفة والعداد يمركي تحريفا من لفظ فرنسي (أي يسجل أموالا إضافية) فيخسر الراكب وقته ومشواره وأمواله. 

واعتقد أن تونس الآن وهنا "حابسة وتمركي" فهي تخسر مشروعها الديمقراطي وتتوقف عن التقدم في مجالات التنمية الملحة (التشغيل والبناء) والكلفة تزيد كل يوم. لقد أدخلت في الاختناق المروري الحتمي للتغيير السياسي وتعجز عن التقدم ولا تملك دوريات فتح الطريق التي تقتحم الاختناق وتسهل السيلان المروري. بل إن الوضع يذكر بسوء سلوك التونسيين في المرور عندما يحتقرون الأضواء المنظمة فيغلقون على أنفسهم المنافذ وينزلون من سيارتهم ليتبادلوا اللعنات. إنهم الآن هناك واللعنات تبلغ عنان السماء.

لقد وضعوا عربتهم أمام الثور بربط كل عملية النهوض الاقتصادي بشرط إجراء مصالحات مع طبقة المفسدين التي جرتهم بالمكيدة والتآمر إلى حيث تريد. موهمة بأنها تمسك السماء أن تقع على رأس تونس. لقد تواطأت الطبقة السياسية ضد نفسها وسلمت قيادها للفاسدين.

العدالة الانتقالية نتيجة لا سبب

بمثول صهر الرئيس السابق (سليم شيبوب) أمام هيئة الحقيقة والكرامة وشروعه في مصالحة كاملة طبقا لشروط الهيئة وتراتيبها (5 مايو 2016) نكون قد دخلنا فعليا في تطبيق مسار العدالة الانتقالية القانوني. لكن هل هذه هي بوابة والانعتاق الحقيقية؟ إننا نسمع الكثير من اللغط أن المصالحة هي صفقة بين حزبين كبيرين لردم الملفات وإنقاذ المفسدين. وهذه الأصوات ترتفع من خارج الأحزاب المتآلفة في الحكومة بما يجعل الادعاء برعاية الفساد محور نضال عند المعارضة التي لا تربط مقاومة الفساد بمسار العدالة الانتقالية. 

لكن هذه الخطاب يبدو مخالفا للبدايات القانونية التي ارتضاها الجميع بموافقتهم على الدستور وهيئاته. الهيئة التي عقدت الصلح هي ثمرة الدستور المتفق عليه وإدارتها منتخبة ومحل قبول فمن يقبل الدستور وهيئاته يقبل بالنتيجة العمل مع الهيئة ويساعدها أو على الأقل لا يعطلها. واعتقد أن تقديم الدليل على محاولات ردم ملفات الفساد للهيئة ذاتها يساعد على نجاح عملها. أما تحويل قضايا الفساد إلى موضوع مزايدة سياسية فهو اختناق مروري سياسي القصد منه تعطيل المسار. والتربح سياسيا من تعويم المعلومات المبتورة أو المفبركة. فلا أحد قدم لنا أدلة محسوسة عن ملفات يتم ردمها. وحبذا لو فعلوا حتى لا يتم القفز فوق الفساد وتعوميه.

لقد فات الحسم الثوري مع الفساد والمفسدين من تصدى لقيادة الحراك الثوري وذلك منذ تم تفكيك اعتصام القصبة 2. لقد كان الحسم الثوري يعني نصب المشانق في الطريق وقطع دابر رجالات النظام السابق بمصادرة ثرواتهم وإرغامهم على الاعتذار(على افتراض أنهم هم الفساد). لكن المسار اتجه وجهة غير ثورية، ففتح باب العفو القانوني والتعايش السلمي. ومنذ ذلك التاريخ فقد الثوريون سيفهم، وتبدو استعادته الآن مستحيلة. 

لقد قبل الجميع العمل بالقانون لا بحد السيف ويصير من الانسجام السياسي أن من قبل المقدمات القانونية يرضى بالنتائج الإجرائية. وخلاف ذلك يصنف موقف المزايدة في الطفولية السياسية التي تساهم في "الاختناق المروري". وتجعل السيارة "حابسة وتمركي".

دعم الهيئة لا دعم الأحزاب الحاكمة

وضع الهيئة وعملها هذا الموضع ليس دفاعا عن احتمالات فساد جديدة تقوم بها الأحزاب الحاكمة لفلفة الملفات/ الورطات. ذلك أن كل صلح خارج الهيئة يعدّ لاغيا وللهيئة حق نقضه. واعتقد أن النص المؤسس واضح بما يكفي لكي يعرف المغامرون السياسيون بطلان عملهم الالتفافي على الهيئة. وهنا تقوم مسؤولية القائلين بفساد الأحزاب الحاكمة قبل الثورة بضرورة تقديم الأدلة خارج التلبيس السياسي والمزايدة. 

لقد سمعنا الكثير عن استثراء وزراء حزب النهضة بدون وجه قانوني ولكن خارج إشاعات المواقع الاجتماعية لم يقدم دليل واحد للهيئة أو للقضاء العدلي. كما قرأنا الكثير عن فساد أسرة الرئيس واستغلالها لنفوذ الأب ولكن القضاء لم يتصل بأي ملف.

يؤدي هذا إلى فتح العين على قضية أخرى هي أن التقوّل بالفساد دون اللجوء إلى القضاء يحاول ستر عورة القضاء نفسه الذي لا يجد شجاعة المبادرة في مقاومة الفساد. فقد ظن الناس خيرا بالقضاة أن يفتحوا معركة ضد الفساد لكن الخيبة كانت كبيرة. كما ظُنَّ خيرا بالمحاماة التونسية بعد الثورة وخاصة بعد بروز مجموعة 25، التي أعلنت الشروع في مقاومة الفساد ثم تبين أنها دون ما أعلنت بل إنها غطت على فساد كثير وتربحت من ذلك. بل إن المحامي المنتخب على رأس هيئة مقاومة الفساد يطلق تصريحات قوية ضد الفساد ولا يتقدم للمحكمة وهو الخبير بالإجراءات.

إن السؤال مشروع كم في القضاة وكم في المحامين يريدون مقاومة الفساد؟ ويمكن توسيع السؤال إلى كل المجتمع المدني وتأمل جهده في مقاومة الفساد عبر إثارة القضايا وعبر توفير المعلومات والدعم لهيئة الحقيقة والكرامة. إن الحصيلة هزيلة مقارنة بالرغاء الإعلامي حول تورط الأحزاب الحاكمة قديمها وحديثها في تغطية الفساد القديم والتأسيس لفساد جديد.

لنتصارح بصوت جهير

عندما خرج زعيم حركة النهضة من اجتماعه مع رئيس الدولة زعيم حزب النداء وصرّح بأن العفو العام هو فتح طريق نحو معالجة الإخفاق الاقتصادي (الاختناق المروري) فسر كلامه على أن الصفقة عقدت بين الرجلين القويين وأن كليهما أخذ حصته من الغنيمة/ الرشوة التي دفعها الفاسدون لردم ملفاتهم. 

وفي أجواء التحليل التآمري يبدو هذا ممكنا جدا بل مغريا. فنحن في عالم السياسية لا في أخوية صوفية منقطعة إلى الله. وانتظرنا القابلين بمسار العدالة الانتقالية الدستوري أن يأخذوا مثل هذه الأقاويل بجدية ليقفوا ضد مثل هذه الصفقات المحتملة بتقديم الأدلة عليها، بما يوقفها ويعطل ما قد يبنى عليها سياسيا وماليا واقتصاديا. لكن لنكن صرحاء لا أعتقد أن أحدا سيفعل ذلك لأن هناك صفقات أخرى عقدت وأثمان قبضت دون أن تصرح الأطراف المستفيدة.

يكفي أن يتذكر التونسيون هنا كلفة الحملات الانتخابية لنجد أثار الصفقات الفاسدة. ولذلك وعوض إرسال الاتهامات وراء الأحزاب الحاكمة وحدها والترامي بتهم الفساد لنشرع في أمرين:

أولا: تقديم الأدلة المحسوسة على صفقة الشيخين (كما تعارف الناس على تسميتها هنا) بما يعطل كل اتفاق غير قانوني بينهما.

ثانيا: ليتطهر الجميع من علاقته بالفساد وليقبل أن يكون موضوع مساءلة في تاريخه المالي حزبا كان أو جمعية أو حتى منبرا إعلاميا صغيرا.

لنقل بصوت جهير لقد افسد الفساد كل من كان غير فاسد لقد تلوث الكثيرون. ولذلك يستسهلون رمي التهم لكي لا يقدموا دليل براءتهم. وفي هذه الحالة (والفساد يعرف ذلك) لن تتم مقاومة الفساد وسنصل بالضرورة إلى ديمقراطية بين الفاسدين فتظل السيارة "حابسة وتمركي" .

بعد إن انعدمت وسيلة المعالجة الثورية للفساد لم يبق أمام مقاومة الفساد إلا سبيل وحيدة: أن يتوقف الجميع عن اتهام الآخرين بالفساد وأن يخرج الأمر كله من مجال المزايدة السياسية إلى المطاردة القانونية بأن يتبلور تيار مدني قانوني وسياسي ضد الفساد والفاسدين وبالأدلة القانونية المجزية التي تجعل القاضي مهما كان تواطؤه أو خوفه يحكم بالحجة. هكذا تخرج السيارة من الاختناق المروري (الفساد) إلى وضع اقتصادي نقي وقادر على السير ولو بتؤدة في طريق التقدم الاقتصادي. 

وليكن قناعة عند الجميع أن الفساد ليس محصورا في رجال أعمال صنعهم النظام السابق ودللهم بل هو بيئة كاملة تخوض فيها الإدارة والنقابة والأحزاب والجمعيات فلا معنى أن تقف النقابة دفاعا عن موظف فاسد وتعقد موائد الحوار حول الفساد. ولا معنى أن يرتزق حزب من رجل أعمال فاسد ويعقد الندوات ويسير المظاهرات ضد الفساد.

هل هذه مثاليات رجل خلف الحاسوب؟ إنها رؤية واقعية تسلم للقانون بعد أن فقدت سلاح الحسم الثوري الذي يبدو أن الجميع كان دونه ذات يوم من أيام القصبة. أما من كان قادرا على تثوير الشارع ونصب المشانق للفساد فاعتقد أن هذه الحكومة أضعف من أن تصده. في الأثناء ها هي تونس حابسة وتمركي.