ثمة ثلاث ملاحظات منهجية أساس، لا بد من سياقها بالبداية لتأطير هذه المقالة:
+ الملاحظة الأولى، أن الخطاب المتمحور حول مجتمع المعرفة بالوطن العربي هو خطاب في المأمول، في المراد وفي المرتجى إدراكه، وليس خطابا فيما هو قائم، فيما هو موجود وفيما هو معاش بأرض الواقع.
+ الملاحظة الثانية ومفادها القول بأن الخطاب عن مجتمع المعرفة في الوطن العربي هو نموذج الخطاب الانبهاري، والذي مؤداه أنه كلما راج مفهوم أو مصطلح ما بالغرب، إلا وسارعنا لاقتناصه وركوب ناصيته واتخاذه مادة للتداول العام.
+ الملاحظة الثالثة: هذا الخطاب هو من طبيعة الخطاب الاستيلابي المتكاثر، والذي من شأنه أن يدخلنا في متاهات سيميائية وفكرية، يبدو الأمر معها ولكأننا نعيش حقا وحقيقة مجتمع المعرفة، في حين أننا أبعد ما نكون إليه شكلا وفي المضمون.
إننا لا نستحب الحديث بالارتكاز على هذا الاصطلاح لعدة اعتبارات، أهمها أننا لا نتوفر على الأسس المادية والموضوعية التي من شأنها استنبات هذا الواقع، واقع مجتمع المعرفة:
- فما ينشر سنويا من بحوث بالدول العربية لا يتعدى 15000 بحثا، وهو مؤشر دون ما يتوفر بالبلدان إياها من إمكانات هائلة، والتي لا تجد سبيلها للتوظيف الأمثل لهذا الاعتبار أو ذاك. والدليل أن العديد من البحوث والرسائل الجامعية الجادة التي يقوم بها باحثون عرب ببلدانهم، غالبا ما تركن للجانب أو توضع برفوف المكتبات، ولا يعتد بها بالمرة في مسلسلات التنمية أو التطوير.
- والإنفاق على البحث والتطوير لا يتجاوز في الوطن العربي 0.05 بالمائة من الميزانيات العامة، ومعظمه يصرف على الرواتب والتعويضات، ولا يذهب لتمويل البحوث أو معاضدة الدراسات التطبيقية التي تصب مباشرة في مسلسل التنمية. ثم إن 90 بالمائة مما ينفق على البحث العلمي بالوطن العربي، يأتي من مصادر حكومية صرفة، في حين لا تمثل هذه النسبة إلا 20 إلى 30 بالمائة بالدول المتقدمة، والباقي يأتي من الشركات والمقاولات الخاصة، التي لها مصلحة في توفر البحوث والدراسات العلمية التطبيقية.
ولذلك، فإن ضمور دور الجامعات ومراكز البحوث بالعالم العربي، إنما يعكس عمق الفجوة القائمة بينها وبين الجامعات والمراكز البحثية الأجنبية، سواء تعلق الأمر بالدراسات النظرية، أو بجوانب التطبيقات الاستثمارية التي لا تجد الحاضنة الكفيلة بتبنيها، تمويلا أو تأطيرا أو متابعة.
- ثم إن الوطن العربي لا يملك اليوم سوى 136 باحثا لكل مليون مواطن، وهو عشر ما لدى إسرائيل، و33 مرة أقل مما لدى روسيا، و20 مرة أقل مما لدى الاتحاد الأوروبي و40 مرة أقل مما لدى الولايات المتحدة الأمريكية... وقس على ذلك.
وهذا يعني أن مقياس تقدم البلدان، بداية هذا القرن، لم يعد يرتكز على ما تكتنزه هذه الدولة أو تلك من ثروات مادية ومصادر طبيعية، بقدر ما يقاس بمعدل ما تنفق على البحث العلمي من ناتجها الإجمالي الخام، وما تتوفر عليه من علماء وباحثين بالقياس إلى ساكنتها، وبحجم ونوعية ما يصدر عنها من منشورات علمية، وما تسجله من براءات اختراع، وما تتوفر عليه من مجلات علمية ودوريات رصينة وبحوث موثقة وجدية وما سواها.
صحيح أن ثلثا الجامعات العربية (عامة وخاصة) لم تر النور إلا في العقدين الأخيرين. وصحيح أنه يوجد بالوطن العربي اليوم ما يناهز 400 جامعة، بين حكومية وخاصة، تثوي خلف تخرج أكثر من 10 مليون طالب، وحوالي 100 ألف مؤسسة استشارية ومئات مراكز البحوث خارج الجامعات. كل هذا صحيح، لكنه غير كاف بالقياس إلى ما يفترض أن يفرزه هذا الزخم من إنتاج علمي وبحث تطبيقي واستثمارات بالميدان.
- ثم إن هجرة الكفاءات العلمية والتقنية تصل إلى مستويات مقلقة بالوطن العربي، إذ 54 بالمائة من الطلبة العرب بالخارج لا يعودون لأوطانهم، بما معناه أن الدول العربية تساهم ب 31 بالمائة من هجرة كفاءات الدول النامية، غالبيتهم العظمى تتمركز بأوروبا وأمريكا الشمالية. وهذا مصدر خسارة كبير، تقدر بحوالي ملياري دولار سنويا، أو بما مجموعه مائتي مليار خلال الثلاثة عقود الماضية.
إن المتأمل لواقع البحث العلمي والإبداع التكنولوجي بالوطن العربي، إنما يلحظ غياب الرؤية البانية لهذه المنظومة، وضبابية الاستراتيجيات والسياسات العمومية المتأتية منها، وتدني القدرات الاستيعابية لما يصدر من بحوث ودراسات على قلتها وتواضع مستواها.
ثم إن المتأمل لذات الواقع لا يمكن إلا أن يلحظ أن البيئة الناظمة لكل ذلك هي بيئة طاردة بامتياز، لا تحتضن الكفاءات أو تفسح لها في مجالات التطور، بل تتجاهلها وتقصيها وتهمشها، إذا لم نقل تحاربها بالجملة والتفصيل.
بالتالي، فإن اختلال منظومة البحث والتطوير بالوطن العربي، لم تفرز فقط حالة اختلال على مستوى التنمية في مدخلاتها، بل أفرزت اختلالات كبرى على مستوى المخارج، أي على مستوى التأثير في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.
هل نحن حقا بإزاء مجتمعات معرفة كما يروج ذلك بالغرب؟ لست متأكدا من ذلك بالمرة.