في الجزء الأول من هذه المقالة المخصصة لمقام القضاء بعد أحداث ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"، أوضحنا أن المسألة كانت منذ اليوم الأول مثار شد وجذب بين موقفين اثنين، شبه متنافرين:
- موقف أول ينادي بالاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، بنية وبنيانا، عن باقي المؤسسات، مع السمو بها إلى مرتبة سلطة قائمة الذات.. محايدة، مترفعة عن المزايدات، وبعيدة عن التشنجات التي لا تسلم منها مؤسستا الحكومة والبرلمان، باعتبارهما المؤتمنتين على السلطتين التنفيذية والتشريعية.
- وموقف ثان يرى بأن الاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، وإن كانت طموحا مشروعا في المدى البعيد، فإن من شأن الدفع بها اليوم إلى أقصى مدى؛ إفراز "دولة داخل الدولة" (دولة القضاء يقول البعض).. قد ينتفخ جهازها ويتغول، فيتعذر بالتالي لجمه أو ضبط سلوكه، بوجه السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما بوجه الأفراد والجماعات على حد سواء.
هما موقفان وجيهان وإلى حد بعيد، حتى في ظل تنافرهما وتضادهما في العديد من المفاصل. بيد أنهما يحيلان (كل فيما يخصه)، على ثلاث صيغ كبرى، هي التي استأثرت باهتمام هذه الدولة أو تلك، كل وفق ظروفها وسياقها العام:
- الصيغة الأولى، وتتمثل في إبقاء الأمور كما هي عليه، أي ترك مستوى النيابة العامة بين يدي الجهاز التنفيذي (وزارات العدل في هذه الحالة)، تماما كما هو معمول به في العديد من الدول الديمقراطية، نظرا لنجاعته ومرونته كحل، أيضا لكونه يبقي المجال بعيدا عن تحكم السلطة القضائية. النيابة العامة هنا لا تتحرك من تلقاء نفسها، ولا تعمد إلى إعمال المسطرة باستقلالية ما، بل تجد نفسها مجبرة للحصول على "الضوء الأخضر" من المستوى التنفيذي المباشر المرتبطة به، والذي غالبا ما يكون وزير العدل شخصيا.
هما موقفان وجيهان وإلى حد بعيد، حتى في ظل تنافرهما وتضادهما في العديد من المفاصل. بيد أنهما يحيلان (كل فيما يخصه)، على ثلاث صيغ كبرى
محدودية هذا الطرح أنه يحيلنا صوبا على أطروحة "دولة القضاء" المتحدث فيها أعلاه، والتي مفادها تغول سلطات النيابة العامة، وعدم قدرة الجهاز التنفيذي في ظل ذلك؛ على تحديد السياسة الجنائية مثلا
حكومة العثماني بعد سنة: عن أية حصيلة تَتحدثُ؟