تخضع
الثقافة، في ظل النظام التكنولوجي الجديد (نظام اندماج الوسائط)، لتقنيات الإعلام والاتصال بغرض موسطتها. وتخضع الثقافة بدورها، باعتبارها تلك المنظومة التاريخية المشكلة من الاعتقادات والتمثلات والرموز، لإكراهات ذات النظام وضغوطاته.
ليس ثمة شك في بروز نظام
الاتصالات الإلكتروني الجديد (وفي صلبه شبكة الإنترنت وثورة البث التلفزي الرقمي العابر للحدود وغيرها) ذي البعد الكوني، كما أن تزاوج وسائل الإعلام وتزايد التفاعلية ضمنها، قد حولت ومن شأنها أن تحول الثقافات في شكلها كما في آليات رواجها و"استهلاكها".
بالتالي، فمستقبل الثقافات كما اللغات إنما يتحدد بمدى قدرتها على التواجد بهذا النظام، وبمدى قدرتها على تمرير المضامين والمعارف بداخله، إذ إنه في مواجهة تقدم لغة كونية ضاغطة، فإن لغة كل بلد وثقافته إنما ستكونان صورة لما يراد لهما اليوم، وليس شيئا آخر.
والمقصود هنا هو القول بأن انفجار الوسائط الإلكترونية (لا سيما المتعدد الأقطاب وشبكة الإنترنت)، إنما سيكون من شأنه قلب مفهوم التواصل اللغوي المعتاد، وسيطرح بالحتم عددا من الأسئلة المحورية حول العلاقات بين أنساق الرموز المختلفة، نصوصا وأصواتا وأشكالا وما سواها.
يقول مانويل كاسطيل ما معناه أن بروز هذه الشبكات (لا سيما المتعدد الأقطاب والإنترنت) إنما يتوازى وتحطيم الحواجز والتمايزات بين وسائل الإعلام السمعية/ البصرية والمكتوبة، بين الثقافة الشعبية والثقافة العارفة، بين الفرجة والمعلومة، بين التربية وعملية الإقناع. كل تعبير ثقافي، القبيح كما الجيد، الأكثر نخبوية كما الأكثر شعبية، كلها تذوب في هذا الفضاء الرقمي الذي يربط في إطار نص تاريخي ضخم، كل تعبيرات الذهن الماضية كما الحاضرة كما المستقبلية.
لا تبدو
اللغة، في هذا الإطار، مستقلة عن الثقافة، بل وفي صلبها ما دامت الثقافة ذاتها هي "نتاج عمليات تواصل"، لا على اعتبار أن كل أشكال التواصل ترتكز على عمليات إنتاج واستهلاك الرموز فحسب، بل أيضا لأن كل المجتمعات تعيش وتتحرك في محيط رمزي بهذه الطريقة أو تلك.
بالتالي، فالجديد، في نظام التواصل هذا، والمنظم حول الاندماج الالكتروني لكل أنماط الاتصال (حتى الحسي منها)، لا يتمثل فقط في كونه ينتج واقعا افتراضيا، بل لأنه يبني لما يسميه كاسطيل بالافتراضية الواقعية، حيث اللغة في هذا المناخ التكنولوجي، ما هي إلا مجموعة رموز وبتات إلكترونية يتحدد بموجبها وجود نظام الاتصال من عدمه.
بيد أن اندماج مختلف التعبيرات الثقافية في نظام التواصل المندمج والمبني على إنتاج وتوزيع وتبادل الرموز الإلكترونية المرقمنة، إنما هو ذو تبعات اجتماعية وثقافية ولغوية كبيرة تتحدد بموجبها حتما طبيعة المجتمع المعلوماتي ذاته.
وعليه، فإن حاضر ومستقبل اللغة والثقافة في ظل عصر المعلومات، إنما يتحددا بمدى قدرتهما على تمثل سمات ذات العصر وتوظيف آلياته وضبط نقط مداخله ورموزه: اللغة مطالبة بـ"المرور" إلى لغة العصر إياه، والثقافة مطالبة بأن "ترقى" بواقعيتها إلى مستوى الواقع الجديد (الواقع الافتراضي) الذي يقدم في كونه مستقبلها، بل و"مصيرها"، يقول البعض.
من جهة أخرى، فلو تسنى للمرء أن يسلم بأن اللغات، كما الثقافات، قد أضحت مترابطة شبكيا (عبر برمجيات معلوماتية محددة) وخصائصها متجاوزة (ما دامت تترجم ببتات إلكترونية لا قيمة تذكر "للخصوصيات اللغوية" في ظلها)، فإنه من المتعذر التسليم بمساواتها أمام الشبكات، كما قد يشي بذلك الخطاب الرائج. إذ الثابت أنه بجل الشبكات الإعلامية والاتصالاتية المتوافرة بالعالم، فإن اللغة الإنجليزية هي التي تهيمن على ما سواها من لغات، سواء في حجم وطبيعة المضامين المروجة، أو في نوعية ذات المضامين وقيمتها.
هي بهذه الشبكات (وبغيرها) اللغة/المركز حيث تدور في فلكها عشرات من "اللغات المحيطية" (فرنسية، إسبانية، عربية، صينية، هندية، ماليزية... إلخ)، وتدور في فلكها مئة إلى مئتي لغة مركزية، تعتبر بدورها قطب المحور لأربعة آلاف إلى خمسة آلاف لغة هامشية.
قد يكون من تحصيل حاصل القول بأنه ما دامت الولايات المتحدة هي صاحبة السبق في إقامة النظام التكنولوجي الجديد وتكريس المجتمع المعلوماتي، بنى ومضامين، فإنه من تحصيل حاصل أيضا القول بـ"حقها" في أن تكون لغتها هي أداة النظام إياه وحامل لوائه.
وهو أمر مشروع وموضوعي إلى حد ما، يقول البعض، لكن المفارقة بداخله إنما تكمن في أن الولايات المتحدة تستوظف ذات السبق لتربط اللغة الإنجليزية "بنموذج في التربية والثقافة"، تبقى اللغات الأخرى بموجبه لغات ثانوية أو مقتصرة على دولة أو مجموعة دول، وفي البعض الآخر منها على "الاستعمال الشفوي البدائي" أو "الاستعمال عن قرب" أو الاستعمال الخاص أو ما سوى ذلك.
يبدو، بالمحصلة النهائية، أنه في ظل هيمنة اللغة الإنجليزية على الاقتصاد الكوني والنظام التكنولوجي الكوني والمجتمع المعلوماتي "الكوني"... يبدو أن هذه الهيمنة لا تتماشى فقط، من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية مع طروحات الاستثناء الثقافي، بل ولا تتماشى إطلاقا مع السياسات اللغوية "الوطنية" القائمة على الحمائية اللغوية، التي تعتبرها
العولمة اللغوية عائقا أمام سريان المعلومات وتنقل البيانات والمعطيات وما سواها. أي أن مد اللغة الإنجليزية قد يتعايش وبناء "اللغات المهمشة"، لكنه يبقى في حالة ممانعة كبيرة واللغات المركزية الأخرى.
يخال الأمر إذن ولكأن دفاع اللغات المركزية على اللغات المهددة هو بالتأكيد من الدفاع عن ذاتها عوض أن "تستفرد" بها مجتمعة اللغة المهيمنة. ويخال الأمر أيضا ولكأن لا مجال للحديث عن "حقوق لغوية" قد تدفع بها هذه الدولة أو تلك أمام مد العولمة وتقدم المجتمع المعلوماتي، كائنة ما تكن السياسات اللغوية المعتمدة أو الاستراتيجيات الثقافية أو ما سواها.
ومعنى هذا أن اللغات المركزية (كالفرنسية والإسبانية والألمانية وغيرها) هي المهددة من لدن اللغة/ المركز، ما دامت هذه الأخيرة هي المستعملة عالميا (حتى بداخل هيئات الاتحاد الأوروبي) التي تشكو من التهديد وتعمل على تجنبه.
والتهديد المقصود هنا قد لا يطال وجود هذه اللغات كأدوات اتصال وتواصل ومكمن حمولات رمزية قائمة، لكنه قد يطال مكانتها وترتيبها بين اللغات، في حين قد تحتفظ العديد من اللغات المهمشة على وظيفتها ومكانتها، إذا لم يكن كأداة للاتصال والتواصل، فعلى الأقل كمستودع لخصوصية ثقافية وهوياتية لن يبلغها التهديد كثيرا على المدى القصير والمتوسط.
من حكم الوارد إذن أن تتراجع المكانة الرمزية التي تمثلها بعض اللغات المركزية ببعض من الفضاءات الجهوية (الفرنكفونية بالأساس)، وذلك على الرغم من السياسات اللغوية التي تنهجها الدول والحكومات. ومن حكم الوارد أيضا أن السياسات الهادفة إلى بناء "مجتمعات معلوماتية جهوية" على هذه الخلفية، تبقى محدودة الأثر والأبعاد، إذ نموذج الاقتصاد والمجتمع "الكونيان" هما في الآن ذاته تكريس لنموذج في التربية والثقافة والفكر لا يقبل بـ "يالطا لغوية" تتوزع مناطق النفوذ بموجبها على خلفية من اللغة... أو من الثقافة.