هذا السؤال هو مشروع بحثي بامتياز. إنه يستوجب تحديد السياق وبلورة المنهجية القمينة بضبطه والإمساك به. ثم إنه من الأسئلة الشائكة التي لا يمكن أن يعثر المرء بخصوصها على جواب جامع مانع. إنها من تلك التي لا نستطيع الحسم بخصوصها بجواب علمي مقنع.
ومع ذلك، يمكننا إجمالا تقديم الرد المؤقت التالي: نعم، لقد حسنت التكنولوجيا من حياتنا وبقدر كبير. الإنسان لم يكن عمره يتجاوز الأربعين سنة فيما مضى. كان عرضة لأمراض فتاكة قاتلة يذهب بجريرتها الناس بالجملة، فبات اليوم بالدول المتقدمة وبالعديد غيرها، يشارف على المائة عام، بفضل التطورات العلمية والتكنولوجية التي طالت علوم الطب وصناعة الأدوية وزراعة الأعضاء واستباق الأمراض المزمنة وغيرها.
لقد مكنت العلوم والتكنولوجيا بني الإنسان من تجاوز عشرات الأمراض "البسيطة" التي كانت تطال البشر، ولا يجد لها من راد، فيذهب بجريرتها وهو في مقتبل العمر. لقد تطور الطب حتى بتنا نتابع اليوم مثلا، عشرات العمليات الجراحية الدقيقة التي تتم عن بعد، بين مستشفيات من قارات بعيدة عن بعضها البعض. ثم إن الطب تطور لدرجة لم يعد المرء يخشى على تبعات الأعراض، بل بات يتهيأ لها ويستشرفها ويتجنب آثارها.
والإنسان كان يقضي الأيام والشهور للتنقل بين مكان ومكان، فبات اليوم قادرا على التنقل في بضع ساعات وفي ظروف ممتعة وآمنة، بفضل تكنولوجيا النقل الجوي والبحري وإلى حد ما بفضل الشبكات الطرقية السيارة العابرة للحدود والقارات. لقد كان المسلمون مثلا يقضون الشهور الطوال للوصول إلى الكعبة في مواسم العمرة والحج. كانوا يستخدمون الجمال وجزء كبير منهم مشيا على الأقدام لشهور طويلة، وينتقل من دولة إلى دولة، ومن جغرافيا إلى أخرى. فباتوا اليوم يحرمون في الطائرات المكيفة، ويبلغون الأماكن الحرام في بضع ساعات معدودات، لا بل ويتوجهون لممارسة طقوسهم دون تأخير نتيجة التعب أو المرض أو الإرهاق.
والإنسان بات يتواصل بيسر لم يكن معهودا من ذي قبل، بفضل ثورة السواتل والشبكات الرقمية والأقمار الصناعية متعدية الحدود. لا بل وبات يتاجر ويحرك الرساميل والسلع والخدمات بفضل التكنولوجيات المعلوماتية واللوجستية، وبات على اطلاع بما يجري بالأسواق الدولية وبالبورصات وهو في مكانه لا يتحرك.
لقد مكنت تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال من ضمان التواصل عن بعد، وتبادل المعارف والبيانات من كل أصقاع الأرض، وتكوين قواعد وبنوك معطيات بإمكان المرء ولوجها ببعض نقرات على الحاسوب ودون الحاجة إلى استعمال الورق أو المداد، فما بالك بالموسوعات الضخمة التي باتت تتنقل، في ثوان معدودات من قارة لأخرى.
ثم إن العديد من المصالح الشخصية كانت تستوجب الانتقال للمرافق العمومية قصد قضائها، فباتت تنجز من المكتب أو من المنزل، كاستخراج وثائق الأحوال المدنية أو التسجيل في الجامعات أو الاطلاع على البيانات الطبية الخاصة عن بعد...وما سواها.
والتكنولوجيا مكنت الإنسان من استباق الكوارث واستشراف أحوال الجو والزلازل، ومكنت من تنويع مصادر الإنتاج الفلاحي والحيواني كما الحال مع البيوتكنولوجيا ومع الأغذية المحولة جينيا وما سواها. لقد مكنت التكنولوجيا من توقع أحوال الطقس، والتنبؤ بمواسم الجفاف والأمطار ومستويات الحرارة في الجو. كما أنها مكنت من تحسين السلالات الحيوانية، وتنويع النباتات وضمان البيئة الملائمة للرفع من إنتاجيتها ومردوديتها.
ثم إن العلم والتكنولوجيا قد ثويا خلف أشكال جديدة في التعلم الموظف للتقنية، إذ لم يعد المعلم ممرا إجباريا للتعلم، بل تمت الاستعاضة عنه ولو جزئيا لفائدة "معلم جديد" يتأقلم وسياق العملية التعليمية. لقد أدت هذه العملية إلى تراجع مستويات الأمية في العديد من بلدان العالم، وأسهمت في تعلم شرائح مجتمعية كانت التقاليد مثلا تحول دون تمدرسها، كما الحال مع الفتيات والنساء.
التكنولوجيا حسنت إذن من حياة الإنسان ودون جدال...لدرجة يستحيل "العيش اليوم" دونها أو دون اللجوء إلى خدماتها. لقد باتت جزءا من النسقية المجتمعية العامة، وباتت معطى بنيويا من المتعذر حقا التجاوز عليه. إنها أضحت جزءا من البناء العام...لا بل ومن المخيال العام.
لكنها ثوت، مقابل ذلك، خلف أعراض ومشاكل وتبعات سلبية كبرى، لا بل وثوت خلف فظاعات كبرى على الفرد كما على الجماعة. الحالات والمبررات هنا أيضا، لا تنقص، لا بل ومتوفرة من ذات السياق نفسه...وهي جزئية جوهرية سنتعرض لها في مادة قادمة.