المقابلة الصحفية التي أجراها الرئيس الأمريكي باراك
أوباما مع جيفري غولدبيرغ ومقابلات أخرى نشرتها مجلة "أتلانتيك" على مدى 70 صفحة تستصرخ عدّة تعليقات لما تحمله من أبعاد تتعلق بالسياسات الأمريكية بما فيها تدخل
الناتو في
ليبيا، كما تكشف المستوى الذي وصل إليه أوباما وكل من كاميرون رئيس وزراء بريطانيا "العظمى"، وساركوزي رئيس وزراء فرنسا في ذلك الوقت. فضلا عن نقد شديد لسياسات
السعودية ودول الخليج.
وبالطبع لا قيمة لمحاولات وزارة الخارجية الأمريكية في التخفيف من وقع تلك التصريحات، وما ولّدته من أزمة، مثلاً بين أمريكا وبريطانيا لا مثيل لها من خمسين سنة في الأقل. وقد جاء التخفيف من خلال القول أنه "أُسيء فهم التصريحات" أو "لم تتقصّد الإهانة" لينطبق عليه المأثور القائل "عُذرٌ أقبحُ من ذنب".
فأوباما يمكن أن يُتهّم بكل شيء في السياسة وفي
الاقتصاد أو في قيادة أمريكا، إلاّ أن من غير الممكن اتهامه بالعجز عن التعبير، أو إطلاق جمل لم يقصد بها كذا وكذا، أو يمكن أن لا يُفهم المقصود منها. فالرجل مشهور ببلاغته وقدرته الكلامية والخطابية.
إن ما يشير إليه أوباما في تلك المقابلة أن أمريكا جُرّت جرّا لإرسال طائراتها للتدخل من خلال الناتو في ليبيا. أي تمّ ذلك من خلال الضغط الشديد الذي مارسه كل من كاميرون وساركوزي على أمريكا والناتو للتدخل.
وقد لبّى أوباما تلك الضغوط ظنا منه أن كلا من كاميرون وساركوزي جادّان كل الجدّ في قيادة الصراع في ليبيا. وإذا بهما ليسا كذلك، وإنما تركا الناتو ومن خلاله أمريكا متورطيْن، فيما راح الأول (كاميرون) ينشغل في أمور أخرى، وراح الثاني يمارس الاستعراض وإصدار البيانات دون مساعدة فعلية وبهذا تكون الصورة كالتالي كما رسمها أوباما:
أمريكا تدخلت من خلال الناتو تحت الضغط، ولم تكن تملك استراتيجية محدّدة، ولا أهدافا محدّدة من وراء هذا التدخل الذي اعتبرَه خطأً. وهذه حقيقة يمكن أن تُقرَأ من خلال المتابعة الدقيقة لعمليات الناتو في ليبيا حيث كانت مرتبكة ومتخبطة وتركت قوات القذافي تقصف مصراتة وتحاصرها حوالي سبعة أشهر.
وعندما اندلعت انتفاضة شعبية – ومسلحة في طرابلس ثم سقط القذافي، إذا بقوات الناتو تعلن انتهاء مهمتها في ليبيا. وتنسحب بالرغم من ضغوط المجلس السياسي الليبي عليها للبقاء. وهو تصرُّف لا معنى له بمقاييس السيطرة والهيمنة بل هو ضدّ ذلك.
اعتراف أوباما بهذه الحقيقة مهم لمن لم يستنتجها من خلال التحليل الدقيق لسياسات الناتو وعملياته العسكرية. والأهم كونها تعطي صورة على ما وصلت إليه السياسة الأمريكية والأوروبية من تَراجُع وتخبّط منذ السنة الحادية عشرة من القرن الواحد والعشرين.
فكل من تعاملوا مع الناتو وتدخله في ليبيا كما لو كان الناتو مرحلة الحرب الباردة عليهم أن يعيدوا تقدير الموقف بناء على حقائق موازين القوى الراهنة والاستراتيجيات والسياسات الراهنة بالنسبة لكلٍ من أمريكا وأوروبا، كما بالنسبة إلى الناتو.
ومن ثم يكفون عما تعوّدوه من تحليل للسياسة الأمريكية في الخمسينيات أو الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، فيقرؤونها وفقا لوضعها الراهن. فبالرغم من أن طبيعة أمريكا وأوروبا الإمبريالية لم تتغيّر إلاّ أن ما تغيّر هو ميزان القوى والسياسات والاستراتيجيات.
وهذه كل السياسة. فإسقاط الماضي على الحاضر سرعان ما ينكشف خلله، ولو تأخر إلى حين صدور تصريحات صارخة مثل تصريحات أوباما آنفة الذكر. فأين الناتوية والناتويون كما وصفوهما إن لم يكن تدخل الناتو عابراً وبلا استراتيجية وبلا أهداف استيلاء وسيطرة على ليبيا.
وإذا ليبيا تتحوّل إلى فوضى فيما تحوّل الناتو إلى مشاهد من بعيد، إن لم يتحوّل إلى أن يضرب كفا على كف ندما، كما يفعل أوباما الآن.
فالفوضى التي أعقبت سقوط نظام القذافي تنفي، بدورها، مع الاستناد لتصريحات أوباما المذكورة، ذلك الوهم الذي اعتبر أن ما ساد من فوضى في ليبيا أو في أي بلد عربي ضربت فيه، بأنها نتاج استراتيجية أمريكية مدروسة، وأن أمريكا تعرف ما تريد من كل خطوة خَطَتْها وتخطوها كما كانت تفعل سابقاً فيما تكشف تصريحات أوباما حجم الارتباك الذي كان سائداً في قيادة الناتو بين أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
وقد وصل الأمر من خلال هذه التصريحات باتهام أوباما لكل من كاميرون وساركوزي بأنهما كانا لاعبَيْن غير جادَيْن فيما ورّطا أمريكا بتدخل لا تريده ولا هدف لها من ورائه. على أن تصريحات أوباما هذه تصلح أن تكتب من قِبَل الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مذكراته بعد كذا سنة من انتهاء رئاسته، وليس في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها أمريكا عموما ورئاسته لها خصوصا.
فما الذي دفعه إلى أن يطلق تصريحات تكشف تخبّط الناتو من جهة، وتسيء العلاقات الأمريكية –البريطانية من جهةأخرى؟ ويفترض بها أن تسيء للعلاقات الأمريكية –الفرنسية كذلك، ولو أن ساركوزي لم يعُد رئيساً للجمهورية. لأن العهد الحالي يظل مسؤولاً من الناحية الأدبية، في الأقل، عن العهد السابق، من جهة ثالثة.
إن مقارنة سريعة بين الرؤساء الأمريكيين السابقين وبين الرؤساء الأمريكيين من كلينتون وجورج دبليو بوش وأوباما. ومثلها لو قورن ونستون تشرشل وكليمنت أتلي بكاميرون وطوني بلير، أو ديغول وميتران بساركوزي وهولاند. مما يتكشف عن هوْل ما حدث للزعامة الأمريكية والأوروبية بين أمس واليوم.
هذا، ولم يكتف أوباما بتصريحاته الفاضحة التي تفتقر إلى الحنكة واللياقة الديبلوماسية في نقد كاميرون وساركوزي وتخطيء الناتو، وإنما ذهب به لتوجيه نقد شديد وجارح لكل من السعودية ودول الخليج. بل وصل الأمر به إلى نقد القبلية وقد اعتبرها من أخطر العوامل المدمّرة خصوصاً مع انهيار الدولة. وكشف أنه يحمل عقدة منذ الصغر تشكل ذكريات قاسية مع القبيلة التي دمّرت والده في كينيا.
اتهم أوباما حلفاءه في الخليج بمحاولة جرّه إلى صراعات طائفية لا تمتّ لمصالح أمريكا أو دول المنطقة بصلة. ووصف قيادات السعودية ودول الخليج بأنها "قوى جامحة" تتهيّأ "لحضورنا واستخدامنا لقوّتنا العسكرية في مواجهة حاسمة ضدّ إيران. وهو ما لا يخدم مصالحنا".
وأشار إلى أن "مصالح بلاده (أمريكا) تقتضي الخروج من الصراعات الدموية في الشرق الأوسط حتى يتسنى لها التركيز على أجزاء أخرى من العالم مثل آسيا وأمريكا اللاتينية". وقد مال أيضاً إلى نقد الموقف السعودي من الاتفاق النووي. وقال: "عليها إدراك كيفية تقاسم المنطقة مع عدوّها اللدود إيران". (هنا يتعامل مع الدول العربية بإهانة حين يعرضها للتقاسم).
وخلاصة، تصريحات أوباما بالنسبة إلى نقده للسياسات السعودية والخليجية تكشف عن الهوّة الهائلة بين الواقع وبين تلك التحليلات التي اعتبرت سياسات السعودية ودول الخليج خلال خمس السنوات الفائتة بأنها سياسات أمريكية، أو تابعة للسياسات الأمريكية. كما تكشف عمق الهوّة بين تلك التحليلات التي فسّرت ما ساد ويسود من فوضى بأنها الفوضى الخلاقة التي صنعتها السياسة الأمريكية من جهة وواقع السياسات الأمريكية التي عبّرت عنها تصريحات أوباما.
علما أن ملاحظة هاتين الهوّتين ما كانت بحاجة إلى تصريحات أوباما، شريطة أن يتحرّر التحليل من موضوعات الحرب الباردة، لكي تُقرَأ السياسات الراهنة وفقاً لما استجدّ من موازين قوى وما حدث من تراجع في السيطرة الأمريكية – الأوروبية عالميا وإقليميا، سياسيا وعسكريا بصورة خاصة.
أما من جهة ما أحدثته هذه التصريحات من إساءات لحلفاء تاريخيين فأمر يدلّل على فقدان أوباما لتوازنه وهدوء أعصابه. ولكن الأهم ما هي ردود الفعل على هذه الإهانات؟