كثيرون منا يعرفون نظرية "
الامتثال الاجتماعي"، ولن يعفيني هذا من استعراضها باختصار؛ ليتبين المعنى المراد من التعرض لها ضمن سلسة مقالاتي حول الوضع الليبي، لما لها من حضور مهم ومساهمة كبيرة في تفسير كثير من التداعيات الراهنة.
نظرية الامتثال الاجتماعي نظرية تفسر سلوك الفرد أو المجموعة المتأثر بأفكار ومواقف فرد أو مجموعة، بغض النظر عن صواب أو خطأ أفكارها ومواقفها، وذلك في حال كان عرض الأفكار أو الترويج للمواقف قويا وإعيائيا.
وتشتهر تجارب عدة للبرهنة على صحة نظرية الامتثال، منها تجربة الفريق الموجه مسبقا لاختيار الإجابة الخاطئة لسؤال بثلاثة اختيارات، ويكون ضمن الفريق شخص خاضع للاختبار، حيث ينجر لاختيار الإجابة الخاطئة، على الرغم من تفطنه للجواب الصحيح، وذلك تحت تأثير اتجاه المجموع واختيارهم.
شاهدت تجربة السيدة التي دخلت لغرفة الانتظار في مصحة لتجد الغرفة تعج بالمرضى الذين هم في الحقيقة جزء من تجربة الامتثال الاجتماعي. لحظات ويدق جرس له صدى في القاعة، ولتكون استجابة الجالسين جميعا الوقوف الفوري لبرهة من الزمن.
السيدة استغربت في وهلتها الأولى، ثم ما لبثت أن قامت بالسلوك ذاته في المرة الثانية، وداومت على متابعة ما يفعله الجميع لمرات عدة، لدرجة أنها استمرت في استجابتها تلك حتى بعد أن خلت القاعة من الجميع، إلا هي.
الأمر المهم، أن الامتثال يقع مع المجموعة الكبيرة تأثرا بموقف شخص أو شخصين، وهو ما أثبتته تجربة حضور يتعدى الخمسين في مسرح صغير، حيث يلقي أحدهم محاضرة لا مدلول ولا معنى لما يقوله، لكن ردة فعل اثنين من الحضور تم الاتفاق معهم كانت حماسية بالتصفيق وعبارات التثمين، الأمر الذي جعل معظم الحاضرين يقومون بالفعل ذاته، مع أنهم أجابوا لاحقا أنهم لم يستوعبوا ما قاله المحاضر، غير أنهم قالوا إنهم تابعوا موجة الحماس، ووجدوا أن المتابعة أفضل لهم من التزام الصمت.
كل من خضعوا لتجارب الامتثال الاجتماعي وانحرفوا بمواقفهم، قالوا إنهم بتخليهم عما ظنوا أنه الأصوب ومتابعتهم الآخرين دون تبصر، إنما فعلوا ذلك لأحد سببين أو كلهما:
- إنهم يتفادون الحرج المتوقع كونهم يشذون عن المجموع العام.
- إن متابعة المجموع تشعرهم بأمان أكثر برغم شكهم في الموقف.
ما أردت نقاشه من استعراض مضامين نظرية الامتثال الاجتماعي، هو تأمل حال المجموع العام من شعوبنا في زمن الربيع العربي، وأركز هنا على التجربة الليبية وصناعة مواقف
الرأي العام أو قطاعات منه متماثلة مع مضامين النظرية دون شك.
فالملاحظ أن كثير من الاتجاهات والأفكار والمواقف تأسست على معلومات وتفسيرات هي في العديد منها مغلوطة، لكنها وجدت أصداء واسعة، وصار لها رأي عام قوي، وهي لا تعدو أن تكون مطابقة لنتائج تجارب الامتثال السابق الإشارة إليها.
الحربان الأخيرتان في الغرب والشرق، وتحديدا في طرابلس وبعض ضواحيها وفي بنغازي، ثم الانقسام السياسي وردود الفعل حولها، تشيران إلى أن الامتثال الاجتماعي وقع، وأنه جر شريحة واسعة هنا وهناك، إذ تنبئ مواقف المجموع الكبير أو شرائح واسعة ممن ناصرت هذا الفريق أو ذاك، أنها لا تبني موقفها على معلومات دقيقة أو تفسيرات صحيحة، وبالنظر لما ترصده من مختلف وسائل نقل مواقف الرأي العام أو بعض شرائحه، تجد غبشا وخلطا وتناقضا عند محاولة تبرير المواقف أو تفسير التوجهات.
ولا علاقة لهذا بعدم القدرة على التعبير، فهذا يمكن التأكد منه بسهولة. وما يؤكد ذلك هو الإصرار على المواقف السابقة التي صارت تمثل موقف الأغلبية ضمن كل جبهة، رغم ظهور حقائق تفندها أو تهز بعض قواعدها والأسس التي قامت عليها.
ما سبق ذكره، لا يمكن أن يكون بأي حال ترفا فكريا أو سفسطة تعقد المشهد ولا تسهم في حلحلته، على العكس تماما، فنحن نتحدث عن نظرية تأسست على تجارب عادة ما تكون نتائجها مضطردة. لذا فإن الموضوع مهم وأهميته في أنه يساعد على فهم التطورات التي استعصت على الفهم، وإدراكها يساعد على احتواء الأزمة، والأهم عندي هو المساهمة في إعادة تشكيل العقل الليبي على بصيرة بعد التيه في مساحات الغبش والتضليل وتزييف الوعي.