كتاب عربي 21

الحصيلة المؤقتة لحكومة السبسي

1300x600
كل ما نتمنى أن نأخذ هدنة من خيبات حكومة السبسي وننساها ونكتب مثلا عن الشأن العربي أو حتى عن شأن المريخ إلا وتجرنا جرا اليها. ما يثير الانتباه سرعة الانحدار بشكل لم يسمح لمن هم في المعارضة لأخذ نفس والمراجعة وترتيب البيت الداخلي. اذ لا يمكن الامتناع عن التعليق على ما يحدث من خيبات. وأصبح من الممكن الآن تبويبها أسبوعيا حسب المحاور لتكاثرها. 

لنبدأ بأهم شعارات السبسي وحزبه "هيبة الدولة". لقد أصبحت زيارات السبسي إلى الخارج مناسبة متوقعة لزلات كثيرة في الشكل والمضمون وبتراكمها نصبح إزاء "خيبة" حقيقية عوض مناسبة لترسيخ "هيبة" لتونس الثورة والديمقراطية في الخارج. بعد زيارة فرنسا وما حدث فيها، أتى الآن دور زيارة السبسي إلى الولايات المتحدة.

لا أدري من نصح السبسي بإلقاء محاضرات مثل التي ألقاها بمناسبة الزيارة في "معهد السلام الأمريكي". نفهم أن الدكتور المرزوقي وضع معايير جديدة لزيارة رئيس تونس للخارج خاصة للولايات المتحدة، فهو لا يتقن الانجليزية فحسب بل هو أيضا مثقف ويعرف ما يقول دون مونتاج وإذا لم تتدخل الفبركة. لكن ما الذي يجبر السبسي ومساعديه على تقليد الرئيس المرزوقي.

ما قام به السبسي شكلا (انجليزية تفوق بقليل الأمية) ومضمونا (إهانة حليفه الأساسي حركة النهضة باتهامها إنها وكل الحركات الاسلامية "تريد الوصول للحكم بالعنف" على حد قوله، كان متوقعا ولكنه مسيئ لصورة تونس، إن الصورة تحديدا أهم أدوات الديبلوماسية.

أهم صور هذا الوضع حفل توقيع "مذكرة تفاهم" بين الجانبين التونسي والأمريكي في 20 أيار/ مايو الجاري.

وزير الخارجية الأمريكي جون كيري رحب في كلمته بالسبسي و"أعضاء الحكومة"، من بينهم "وزير الشؤون السياسية" محسن مرزوق ونواب مجلس نواب الشعب، والأدهى يمضي مع "نظيره" مرزوق مذكرة تفاهم. بالمناسبة مرزوق، وهو بكل تأكيد ليس عضو حكومة، أصبح منذ أسبوع أمين عام حزب السبسي "نداء تونس" وهو بذلك في حكم الاستقالة حتى من موقعه الاستشاري. في الأثناء نظير جون كيري الفعلي الطيب البكوش منشغل بما هو أهم أي التجول بين بلاتوهات التلفزة في تونس كأنه مستشار اعلامي، فلم سنحتاج لوزير خارجية؟!

بعد كل ذلك ما هي الحصيلة الفعلية للزيارة؟! "مذكرة التفاهم" حسب ما رشح من رسالة وجهها أعضاء من الكونغرس للرئيس أوباما يوم 15 أيار/ مايو تبدو مجرد إعلان نوايا لـ"دعم اقتصادي" على مدى السنوات القادمة لكن دون التزامات محددة من الجانب الأمريكي، مقابل مواصلة الضغط على الجانب التونسي للمضي في "الإصلاحات الصعبة".

لقاء في مقر وزارة التجارة الأمريكية مع رجال أعمال "لنقاش حساس" على حد وصف وزير التجارة الأمريكي. وإعلان تونس من قبل الرئيس أوباما كـ"حليف رئيسي غير عضو" في "الحلف الأطلسي" وهذا لا يعني امتيازات فعلية كبيرة (باستثناء مثلا "الأولوية في الحصول على فائض المعدات العسكرية الخارجة عن الخدمة") مقابل التركيز على "المشاركة في أنشطة ضد الارهاب" وما يمكن أن يعنيه ذلك من تسهيلات لوجيستية مباشرة لأي تحركات أمريكية في شمال أفريقيا مثلما حدث ويحدث مع دول أصبحت في هذا التصنيف مثل الأردن وباكستان وأفغانستان. 

فعلا تونس ستمر بوضع صعب وسيتأزم تحديدا بغياب أي برنامج أو رؤية مشتركة للحكومة وستتعمق بسبب انحيازها الكامل لمقررات المؤسسات المالية الدولية. ومثلما أعلن "صندوق النقد الدولي" منتصف هذا الأسبوع وهو الذي يمسك بالجدول الزمني ومضمون "الإصلاحات الهيكلية الموجعة" فقد تم منح تونس مهلة نصف عام إضافية مقابل الإسراع في "الإصلاحات الجبائية والبنكية".

 وهنا من المتوقع أن تسرع الحكومة في أكثر من قانون (مثلما تفعل الآن مع نواب مجلس نواب الشعب عندما ترسل إليهم مشاريع قوانين قروض بدون أي معطيات للتصويت الفوري). مثلا "مجلة الاستثمار" التي وقع انتقادها بسبب مزيد توفير أسس للتهرب الضريبي (أحد مصادر نزيف الميزانية)، وأيضا خوصصة جزء من البنوك العمومية وهي الأدوات التمويلية الوحيدة للدولة مثلما لمح وزير المالية. 

ورغم تهرب حكومة السبسي من تقييم مئة يومها الأولى وانخراط مستشاريه ومعاونيه في إثارة كل اللغط الممكن مثل فبركة كلام للدكتور المرزوقي بما أدى لإلهاء الرأي العام عن حصيلة الحكومة فإن الأرقام بدأت تظهر تباعا عن الثلث الأول لسنة 2015 وأهمها ما نشره معهد الإحصاء حول نسبة نمو الناتج المحلي والتي نزلت لأول مرة  مقارنة بالثلث الأول لسنة 2012 (أي حصيلة المئة يوم لحكومة الترويكا الأولى) تحت سقف %2 لتستقر في حدود %1.7. وهو ما أدى بزياد كريشان وهو أحد المعلقين المقربين من الحزب الأغلبية بالقول: "وهكذا يمكن أن نقول منذ الآن، وداعا لأحلام %3 لسنة 2015 فما بالك بوهم %4 الذي انبنى عليه البرنامج الانتخابي لنداء تونس". يواصل كريشان: "نقطة واحدة في الناتج المحلي الإجمالي توفرّ ما بين 12000 و15000 موطن شغل فعلي وعندما نعلم أن الطلب الإضافي السنوي على سوق الشغل هو في حدود 90.000 شاب وشابة ندرك أنه تحت %6 لا إمكان لامتصاص اقتصادي حقيقي للبطالة.. كما أن كل نقطة نمو تساوي عدة مئات الملايين من الدينارات كمداخيل جبائية للدولة وهذا ما سيفاقم، ضرورة، من مديونيتنا".

يضاف إلى هذه الأرقام العامة مؤشرات رمزية سلبية للغاية في الذهن التونسي ويتعلق ذلك تحديدا بصابة الحبوب حيث لايزال التونسيون يهتمون كثيرا بأسعار كل المواد المشتقة من الحبوب وعلى رأسها الخبز. فقد نقلت تقارير إخبارية أن هناك تقديرات أولية عن "تراجع صابة حبوب الموسم الحالي في تونس بنسبة مقدرة بنحو 40 في المائة واختلفت التفسيرات حول الأسباب الكامنة وراء نقص الصابة وهناك من برر الأمر بنوعية الأسمدة والأدوية المستعملة فيما ذهب البعض الآخر إلى نوعية البذور المعتمدة". وأضافت: "وأشار مهندسون من وزارة الفلاحة التونسية في تقاريرهم الميدانية إلى أن السنابل جاءت فارغة ولم تكن محملة بالحبوب وهو ما أثار بلبلة في صفوف الفلاحين". 

بالإضافة إلى كل ذلك مؤشرات الموسم السياحي بدت سلبية من نسبة الحجوزات ومن الواضح أننا نتجه إلى صيف ساخن اجتماعيا، مثلما تشير إليها الاضرابات المؤطرة والعشوائية. بالإضافة للتحركات الاجتماعية للعاطلين عن العمل في المناطق المهمشة وخاصة المناطق الحدودية. وأيضا تواصل تأزم العلاقة مع الجار الليبي حيث نجحت السياسة الخارجية للسبسي والطيب البكوش على وجه الخصوص في تأزيم العلاقة مع حكومتي طرابلس وطبرق على وجه السواء. 

بكل تأكيد لا يمكن لأي تونسي بما في ذلك في المعارضة أن ينشرح لهذه الأوضاع. جزء من المعارضة كان في السلطة ويدرك جيدا أن الكثير من الصعوبات هيكلية وليست مسؤولية أي حكومة قصيرة المدى. ويقف بالتأكيد السبسي الآن امام المرآة وعليه أن يتذكر حملة الهستيريا التي شنها ضد أول حكومة منتخبة ومن خلالها أراد مسح كل مساوئ المنظومة القديمة فيها. 

 لكننا الآن إزاء حكومة تمثل المؤسسات الدائمة، وبعكس كل حكومات ما بعد الثورة أمامها أفق يمتد لخمس سنوات ويقع على كاهلها مسؤولية الإصلاح الهيكلي. وعليها أن تختار إما مواصلة الدهشة وسياسة رد الفعل والاتباع الأعمى والآلي لتوصيات المؤسسات المالية الدولية، وإما طرح رؤية استراتيجية تتماهى مع انتظارات المفقرين والمهمشين وتعتمد المبادرة والصراحة. إذ بالتأكيد لا نتمنى فشل الدولة، وخاصة فشل ديمقراطيتنا الناشئة خاصة أمام تربص الإرهاب. يبقى أنه حتى  الآن لا توجد مؤشرات مشجعة على ذلك. إذ إنه بعد مرور مئة يوم كاملة من تشكيل حكومة (استغرق تشكيلها مئة يوم) قرر الحزب الأغلبية وبدون التشاور مع حلفائه الثلاثة تقديم "برنامج إنقاذ" لرئيس الحكومة بما يعمق غياب أي تنسيق بينها. فبعدما أعلن السبسي خلال الحملة الانتخابية أن لديه من الكفاءات ما يشكل أربع حكومات يبدو أنه انتهى بنا الأمر إلى أربع حكومات مشتتة في حكومة واحدة لا تستطيع أن تحكم.