إن معظم البشر يولدون متشابهين من الناحية
البيولوجية وصفحات بيضاء من الناحية الإيديولوجية، وأرقاما مجردة وأجساما محددة من
الناحية الجغرافية والديمغرافية. ولكنهم قد يرحلون أو يرحلون (بتشديد الحاء)
أعلاما راسية وأقزاما واهية!!
وإن ذلك الاختلاف الكبير بين المواليد
المتساوين في البداية والمختلفين في النهاية، يعود أساسا إلى إرادة الأفراد أنفسهم
الذين قد ينشؤون ويربون في هذه البيئة وعلى هذا النهج أو ذاك، فيكونون في مقام أو
قامة هذا الحكيم العلم، أو ذاك الزنيم واللئيم القزم.
وذلك لأن الأجساد الجغرافية والترابية كلها، إذا كانت ذات طبيعة مادية وقوانين فيزيائية حتمية لا إرادية تتحكم فيها الشفرة
الوراثية، فإن الصفات والسجايا والفضائل أو الرذائل الأخلاقية والسياسية
والثقافية بصفة عامة، هي كلها إرادية يكونها الفرد لذاته ويتكيف معها بإرادته
(الواعية)، مهما تكن الظروف القاسية التي قد تكيفه حينا، ولكنها لا تقهره أبدا، إلا
إذا قطع حبل الأمل والرجاء من باب السماء، والتصق بالأرض الصماء كالحشائش والدواب
العجماء، وبهذا قد يعيش الفرد ويموت مثل الكبار، أو يولد ويتمعش ويرحل مع الصغار، الذين لا يحس من حولهم بوجودهم ولا برحيلهم؛ لأنهم إن حضروا فلا أثر لهم، وإن
غابوا فلا سائل عنهم.
وأعتقد جازما أن معظم هذه الصفات والفضائل
الإنسانية والإرادية، تنسحب في جزء كبير منها على فقيد
الجزائر والأمة بأسرها،
الأستاذ عبد الحميد مهري، أستاذ الأجيال الوطنية الباقي من المرحلة التحضيرية
الصغرى إلى المرحلة التحريرية الكبرى، احتلالا ونضالا ومقاومة واستقلالا ومعارضة و"استحلالا"، من منتصف الأربعينيات إلى أن فارق هذه الدنيا
الفانية إلى الدار الباقية يوم 2012/01/30، والأمة في أشد الحاجة إلى أمثاله من
حكمائها الأفذاذ مشرقا ومغربا.
الكبار قد يولدون صغارا، ولكنهم يكافحون بكل إخلاص وإيمان طوال حياتهم ليعيشوا ويموتوا كبارا. والعبرة دائما بالنهاية وليست بالبداية، ولا يمكن للذي مات كبيرا أن يصبح صغيرا؛ لأن الأجساد إذا كانت تخضع للتحلل في التربة بفعل العوامل المناخية والطبيعية كالانجراف والتعرية، فإن التاريخ فوق مستوى كل هذه العوامل الطبيعية وغيرها، مما هو واقع على الإنسان رغم إرادته البشرية المحدودة، فإن التاريخ كله مرتبط بروح الإنسان وإرادته، وهمته العالية، التي لا تخضع للهزات الأرضية، ولذلك نحن نعرف تاريخ الزلازل ولكننا لا نعرف زلازل التاريخ أبدا.
ولا شك أن كل من شهد تلك الجنازة المهيبة في مقبرة سيدي يحيى الصغيرة في مستوى العاصمة، والكبيرة في محتوى القائمة، وتمعن في وجوه الحاضرين، عرف وأدرك هذه المعاني السابق ذكرها، وميز ذلك البون الفارق بين جنائز الرجال العظام ومواكب الذكور الأقزام، وتعرف كل من له حس في البصر والبصيرة على خريطة الفضائل والأعمال الكبيرة الممدودة أمامه كالحصيرة، ليتأكد من معادن
الرجال وجلائل الأعمال وصدق النضال، دون كلل أو انحراف على امتداد سنوات الاحتلال
والاستحلال، ومغريات عالم المال والأعمال، الذي يفسد الذمم ويضعف الهمم لدى الكثير
من الرجال.
ولقد جمعت تلك الجنازة المتميزة كل نخب
الجزائر دون استثناء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أصحاب الفضيلة والإيمان
إلى رموز النفاق والعصيان، ومن رجال المال والأعمال إلى الوزراء والسفراء والعلماء
والخبراء والخفراء، من كل الرتب والمستويات الوطنية والجهوية، ومن ذوي كل الأوسمة
والنياشين الذهبية والخشبية المرئية منها والمخفية.
لقد كانت جنازة نموذجية بحق وغير مسبوقة
فيما نعلم خلال العشريات السابقة، وربما لن تتكرر في بضعة عقود لاحقة؛ لأن الصفات
والخصال النضالية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية والثقافية والتاريخية للفقيد
الوزير، والسفير والأمين العام لحزب جبهة التحرير، جعلت منه زميلا للعديد من أصحاب
المهن والوظائف والمناصب والمكاسب، والاختصاصات في معظم مجالات الحياة الحزبية
والمدنية والعسكرية الوطنية والقومية والجهوية المشرقية والمغربية الشمالية
والجنوبية، فكانت جنازة أشبه بالمحشر الدنيوي الذي يعرفه الحجاج يوم الوقوف بعرفات،
ورمي الجمرات.
ومن مميزات هذه الجنازة أيضا، أنها جمعت
بين كل الأضداد في الساحة والساعة الوطنية، سواء في ما يتعلق بتناقضاتها العقائدية
فيما بينها هي، أو فيما يتعلق بتناقضاتها المبدئية والانتمائية والعقائدية فيما
بينها وبينه هو، كجبهة أو صخرة صلبة لا تتأثر بالرياح الموسمية الشرقية والغربية أو
الشمالية والجنوبية؛ بحيث رأينا أناسا من المشيعين نعرفهم بسمات في وجوههم
وأحقاد في قلوبهم وذمم في جيوبهم، كانوا إلى عهد قريب جدا يتآمرون عليه، وقد آذوه
ماديا ومعنويا، وأذاقوه الكثير من سموم ألسنتهم الحداد، قد أصبحوا بين عشية وضحاها
من عداد أصحابه ورفاقه وربما أحبابه، وسبحان الله في تقلب طباع عباده من كل أنواع
وألوان ترابه!
ولقد رأى الجميع بعض الذين مكروا به ونغصوا
عليه حياته، يتحسرون على فراقه ويمدحون خصاله وينافقون أهله وأصحابه، بعد التأكد من
وفاته والتحاقه بدار الحق التي لا تخطئ أحدا من الكائنات والحمد لله، متظاهرين
بالبكاء والحزن عليه وتعزية الوطن وجهاد الأمة ونضالها وإصلاح أحوالها في غياب
أفكاره، وسداد أقواله وآرائه وإخلاص أفعاله. هذا عن الجنازة النموذجية بامتياز، وعن
نوعية وكمية المشيعين والمرافقين، أما عن علاقة كاتب هذه السطور بطيب الذكر، فهي
علاقة جندي صغير بضابط كبير، أو طالب بأستاذ، ومناضل بزعيم، أو متعلم بحكيم.
لقد تعرفت لأول مرة على هذا الأستاذ مباشرة، فور عودتي من القاهرة سنة 1979م بعد استقالتي من منظمة العمل (بجامعة الدول
العربية)، إثر اتفاقية كامب ديفيد اللعينة التي فرقت بين المرء وزوجه وبين الابن
وأمه، وقد صادف وقتها في الجزائر موت الرئيس هواري بومدين، وتولي الفقيد وزارة
الإعلام في أول حكومة للرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله، وعندما عين الدكتور
بوعلام بن حمودة وزيرا للداخلية والجماعات المحلية في كانون الثاني/يناير 1980، وقد كان يشغل
منصب رئيس لجنة الثقافة والإعلام بحزب جبهة التحرير الوطني خلفه الأستاذ عبد
الحميد مهري على رأس هذه اللجنة، فبدأت أشتغل معه مباشرةً وباستمرار؛ بحكم أن
لجنة الثقافة والإعلام كانت هي المكلفة بمتابعة تطبيق قرارات اللجنة المركزية لحزب
جبهة التحرير الوطني في مجال التربية والتكوين، وأنا كنت مستشارا بالوزارة المذكورة
مكلفا بالإشراف والتنسيق الوطني لكل ما يتعلق بتطبيق هذه القرارات على مستوى وزارة
الداخلية والجماعات المحلية، في إطار عملية التعريب الشاملة والمرحلية في
الإدارة المركزية، والتكوين والحالة المدنية في مؤسسات الدولة بالولايات والجماعات
المحلية، ومن ذلك
التاريخ الذي يعود إلى أكثر من 30 سنة، لم تنقطع صلتي به إلى أيام
قليلة قبل مرضه ووفاته.
لقد عرفته عن قرب خلال هذه العقود الثلاثة، بواسطة أربعة
من الأصدقاء المشتركين، كان أولهم الأستاذ المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم الذي
يعرف الفقيد منذ سنوات النضال والدراسة في الأربعينيات من القرن الماضي بجامع
الزيتونة بتونس، وكان الاثنان يتبادلان الكثير من التقدير والاحترام إلى درجة
الإعجاب، وقد كانت تجمعهما العديد من المبادئ والصفات الثقافية والفضائل الوطنية
والأخلاقية والخصال القيادية الحزبية والإدارية، حتى فرقهما الموت في اليوم الموعود
إلى دار الخلود، وأذكر أنني عندما أصدرت كتابي عن "مولود الجزائر" في الذكرى
السنوية الأولى لوفاته سنة 1993 بعنوان (مولود قاسم نايت بلقاسم: حياة وآثار شهادات
ومواقف)، بادرت كعادتي بإهداء نسخة منه للأستاذ عبد الحميد مهري، ففرح كثيرا وشكرني على تلك المبادرة التي تعبر (كما قال لي) عن الوفاء الخالص، والواجب نحو هذا
الصديق المشترك، وأضاف رحمه الله قوله: "لقد نبت عنا جميعا يا فلان بهذه
المبادرة الوفية، وعوضت تقصيرنا في حق هذا الرجل الوطني المثقف والمناضل المثال،ي ذي
العزم الصادق والموقف الصارم والحازم، خاصة فيما يتعلق بالثوابت الوطنية.. جزاك
الله كل خير عن تدارك هذا التقصير منا، في زحمة وغمرة هذه الأحداث الأليمة الأخيرة
التي تعصف بالجميع، وتدفع بالوطن إلى المجهول في خضم "العتف المسلح" الذي
عرفنا بدايته ولا نعرف نهايته".
أما الصديق الثاني المشترك الذي قربني أيضا
بالأستاذ عبد الحميد مهري من الناحية التاريخية والحركة الوطنية والثورة التحريرية، فهو الرئيس المؤمن الصادق بن يوسف بن خدة رحمه الله، الذي كان جاره المباشر في
الجغرافيا كما في التاريخ أيضا بطبيعة الحال، فكنت كلما أزور الأول أعرج على
الثاني في بيته عندما يكون موجودا، وأذكر أن الرئيس بن خدة كان يردد دائما قوله؛ "إنني
اقترفت ذنب التصويت على الاشتراكية في مؤتمر طرابلس1962. وأعلن توبتي أمام الله
في حق الوطن والشعب الجزائري"، فقال له سي عبد الحميد مرة بأسلوبه الناعم
والدبلوماسي في الوقت ذاته (أمام الملايين على شاشة التلفزيون الوطني)، وقد كان
يومها أمينا عاما لحزب جبهة التحرير الوطني (سنة 1990) في ربيع أول ديمقراطية
حقيقية عرفتها الساحة العربية حتى الآن إلى أن يثبت العكس، وكان بن خدة وقتها رئيس حزب (حركة الأمة)
الذي حل بعد الانقلاب على الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية مباشرة سنة
1992، قال له الأستاذ مهري بابتسامته المعهودة:
"أما أنا، فلم أتب يا سي بن يوسف".
أما الصديق الثالث المشترك الذي كان يجمعني
به ثقافيا ووطنيا وقوميا ووحدويا، فهو الدكتور علي بن محمد وزير التربية الوطنية
السابق، الذي ذهب ضحية مؤامرة حزب '"الاستحلال" المعتمد في الإدارة
الفرنسية ضد اللغة العربية (الوطنية والرسمية)، رغم المادة الثالثة من الدستور
(شاهد الزور) حتى الآن في هذه المسالة المصيرية بالذات، بعد 62 سنة من توقيف القتال
والتوقيع على أوراق الاستقلال.
أعتقد جازما، أن معظم هذه الصفات والفضائل الإنسانية والإرادية تنسحب في جزء كبير منها على فقيد الجزائر والأمة بأسرها، الأستاذ عبد الحميد مهري، أستاذ الأجيال الوطنية، الباقي من المرحلة التحضيرية الصغرى إلى المرحلة التحريرية الكبرى، احتلالا ونضالا ومقاومة واستقلالا ومعارضة و"استحلالا"، من منتصف الأربعينيات إلى أن فارق هذه الدنيا الفانية إلى الدار الباقية يوم 2012/01/30، والأمة في أشد الحاجة إلى أمثاله من حكمائها الأفذاذ مشرقا ومغربا.
وكان الدكتور علي بن محمد هو صاحب فكرة
استبدال اللغة الإنجليزية بالفرنسية في كل مراحل التعليم الرسمي، وقد دفع ثمن ذلك
الموقف الوطني غاليا، حيث كلفه منصبه الوزاري إلى غير رجعة؛ لأنهم يحقدون على
أعدائهم كأسلافهم وأمثالهم في الملة.
وقد عرفته كذلك على صعيد اجتماعات أعضاء
المؤتمر القومي العربي، الذي كنا أعضاء عاملين فيه، وكان أستاذنا عبد الحميد مهري
على رأس أمانته العامة في بيروت لعدة سنوات، وكذلك مؤتمرات وندوات النضال الوطني
والقومي ضد عمليات التطبيع مع العدو، والتغريب والمسخ والنسخ والفسخ والتذويب
المتواصل لمقومات الشخصية وثوابت الهوية الوطنية والقومية للشعب الجزائري.
ولقد كان آخر لقاء جمعني بفقيد الوطن والأمة
الأستاذ عبد الحميد مهري على منصة واحدة، هو ندوة نظمت في المؤتمر الدولي السابع
للشيخ (الرئيس) محفوظ نحناح بالجزائر العاصمة في شهر حزيران/ يونيو من سنة 2010م
تحت عنوان "المقاومة خيار الأمة: الثورة الجزائرية نموذجا".
وأما الشخص الرابع الذي كان من المعارف
المشتركة بيننا، فهو الأستاذ الهادي إبراهيم المشيرقي المجاهد الليبي
الجزائري"، الذي وضع بيته وعائلته وفندقه ومزرعته وثروته بل وحياته كلها في
خدمة الثورة الجزائرية المجيدة، ثورة الأمة كما عبر عنها بالتفصيل، في كتابه
المعروف بعنوان "قصتي مع ثورة المليون شهيد"، وأذكر أنه بعد إتمام دفنه
في مقبرة العالية بالجزائر العاصمة، كما هو معلوم بناء على وصيته لأهله، رغم
امتناع السلطات الليبية حينها، وكان ذلك سنة 2007م، ارتأت عائلته كرمز وعربون
للصداقة والكفاح المشترك بين الشعبين الشقيقين (الليبي والجزائري)، أن تقيم له حفل
تأبين في طرابلس، فطلب مني ابنه عادل أن أتصل بالمدعوين من الجزائر للمشاركة في هذا
الحفل الرمزي التكريمي المشترك، وهم الأساتذة عبد الحميد مهري والسعيد عبادو (أمين
عام المنظمة الوطنية للمجاهدين الجزائريين) والأستاذ المجاهد والكاتب محمد الصالح
الصديق (ممثل الثورة في طرابلس قبل الاستقلال) وكاتب هذه السطور، وكان لاختيار
هؤلاء الأربعة أسباب وحيثيات لدى الداعين والمنظمين، وقد تقرر حفل التأبين في ما
أذكر يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2007م، وصادف أني كنت مدعوا قبل هذا التاريخ ومبرمجا قبله من
مركز الجهاد الليبي لإلقاء محاضرة حول جهاد الجزائر، فسبقت الزملاء الثلاثة بأسبوع
كامل على أن أبقى هناك ليلتحقوا بي، فأخذت معي صورة جواز السفر
"الدبلوماسي" للأستاذ عبد الحميد مهري، الذي كان قد أعيد إليه بعد أن نزع
منه لفترة غير قصيرة كما هو معروف.
وشاركت في تحضير حفل التأبين المذكور مع أهل
الفقيد هناك في طرابلس وأرسلنا التذاكر، وتم الحجز له على الدرجة الأولى في
الطائرة ذهابا وإيابا، في اليوم الذي حدده لي رحمه الله، إلا أننا فوجئنا بعرقلة
وتماطل ملفوف، ثم منع صريح ومكشوف لإقامة الحفل المذكور في موعده من طرف السلطات
الليبية آنذاك؛ وذلك انتقاما من الفقيد الذي كان قد أوصى أن يدفن مع شهداء
الجزائر في مقبرتهم الرسمية (بالعالية) على أرضهم الطاهرة التي أحبها وأحبته !!! وقد ظل التسويف القاتل هو الحائل دون هذا التأبين سنة بعد سنة، إلى أن قضى الله أمرا
كان مفعولا، وبقيت التذكرة مفتوحة ومتجددة سنويا في جيب الفقيد، لتظل صالحة مع وقف
التنفيذ، وستبقى كذلك إلى يوم يبعثون.
وما يجدر بي تسجيله هنا من عبارات ومواقف
صريحة وشجاعة له بهذه المناسبة، وهو في دار الحق، وما نتمناه نحن فقط هو اللحاق به
صامدين على دربه غير مبدلين ولا مغيرين، هو حديث خاص جدا دار بيني وبينه في
بيته، وكان ذلك سنة 1995 عندما أهديت له كتابي المثير للجدل (حزب البعث الفرنسي)، فقال لي: لعلك تقصد حزب فرنسا الجزائرية، بعد فشل مخطط الجزائر الفرنسية؟"،
فقلت له هذا بعض ما في الكتاب وليس كله، ولكن الذين يسمون بالإرهابيين اليوم وهي
التسمية ذاتها التي كانت تطلقها فرنسا على المجاهدين في أثناء الثورة التحريرية كما
هو معلوم، وربما لذلك أنت تسميهم (أصحاب العنف المسلح)، يقال لنا بما يشبه
اللازمة بأنهم كلهم من العملاء ومخلفات الحركى والخونة وأقاربهم، للانتقام من
المجاهدين وأبناء الشهداء والوطنيين الحقيقيين.
فإذا كان هؤلاء الإرهابيون كما يسمون كلهم
عملاء لفرنسا ضد الوطن ومن عائلات وأبناء الحركى ضد المجاهدين، فإن ذلك يدل على أن
فرنسا تضحي بأبنائها من أجل مصالحها (الوطنية)؛ لأن أبناءها هم الذين يقتلون على
أيدي المجاهدين في الجبال كما يقال لنا، فقال لي رحمه الله: "يمكن لفرنسا أن
تضحي بالعملاء والحركى الصغار من أجل حماية الحركى الكبار للدفاع عن مصالحها
الحيوية في الديار". .
وأضاف قوله في سياق آخر ذي صلة بالموضوع؛ "إنني مقتنع اقتناعا راسخا بأن أي اتفاق يبرم بين أطراف جزائرية وفرنسية
حاليا، يكون بالقطع (وإلى أن يثبت العكس الذي لم يحدث حتى الآن!)، لصالح فرنسا في
الجزائر؛ لأنه اتفاق بين أستاذ وتلميذه الذي يظل في نظره كذلك مهما كبر وتعلم.
وما يمكن أن نستنتجه من هذه الوقفة التأملية
والاستذكارية لمواقف هذا الرجل الكبير، هو أن الكبار قد يولدون صغارا، ولكنهم
يكافحون بكل إخلاص وإيمان طوال حياتهم ليعيشوا ويموتوا كبارا. والعبرة دائما
بالنهاية وليست بالبداية، ولا يمكن للذي مات كبيرا أن يصبح صغيرا؛ لأن الأجساد
إذا كانت تخضع للتحلل في التربة بفعل العوامل المناخية والطبيعية كالانجراف
والتعرية، فإن التاريخ فوق مستوى كل هذه العوامل الطبيعية وغيرها، مما هو واقع على
الإنسان رغم إرادته البشرية المحدودة، فإن التاريخ كله مرتبط بروح الإنسان
وإرادته، وهمته العالية، التي لا تخضع للهزات الأرضية، ولذلك نحن نعرف تاريخ
الزلازل، ولكننا لا نعرف زلازل التاريخ أبدا.
وإذا كانت المواطنة تكتسب بالجنسية الورقية
التي تمنح وقد تمنع، فإن الوطنية الحقيقية لا تكتسب إلا بالتضحية الفعلية، وهي
ليست عقارا يباع في الصيدلية، لفاقدي المناعة العقلية والجسدية.
تلكم هي بعض المعاني والعبر المستخرجة من
حياة هذا الفقيد الكبير والمعلم الخبير، الذي لا يملأ مكانه ولا يطال مقامه أو
قامته الوطنية الطويلة أي صغير أو قصير، إلى أن يتحقق التغيير الحتمي والسلمي إن
شاء الله، بفضل إخلاص وجهاد عباده الصادقين والمخلصين في دنياهم لأخراهم، على نهج كل
كبارنا السابقين واللاحقين المتعاقبين على الوطن كأمواج البحر عبر السنين.