ما
إن أذيع خبر
اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد
إسماعيل هنية، حتى امتلأت
وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات والصحف والمواقع الإخبارية، وفاضت بتحليلات واستنتاجات
من كل نوع، حول كيف حصل الاغتيال ومن الفاعل ولماذا اغتيل في طهران.
وقد
ذهب كثير من هذه التحليلات والاستنتاجات إلى الشطط، مما خلق بلبلة واضحة وانقسامات واتهامات
بين أصحاب هذه التحليلات، وكل منهم يدعي امتلاك الحقيقة، ويحشد كل ما يستطيع من حقائق
وخيالات في محاولة لإثبات صحة ما يقول. وغني عن القول بأن هذا الانقسام والتسرع في الاستنتاجات
لم يخدم سوى مرتكب الجريمة؛ ذلك أن جزءا كبيرا من تلك التحليلات تصب في تبرئة الكيان
الصهيوني من الجريمة، حيث إنه وبرغم عدم إعلانه عن ارتكابها أو تحمل المسؤوولية عنها، إلا أنه لم ينف ذلك أيضا، وترك الناس يتخبطون في التعامل مع هذه الجريمة وينقسمون عليها، بدلا من إجماعهم على توجيه الإدانة إليه، وتحميله مسؤوليتها ومسؤولية تبعاتها وردود
الفعل عليها.
والواقع، أن كل التحليلات التي استنتجت أو حاولت إبعاد المسؤولية عن دولة الاحتلال الصهيوني
وإلصاقها بإيران، الدولة التي اغتيل الرجل على أراضيها وفي حجر عاصمتها وفي ضيافتها،
تفتقر إلى المنطق، وتنطلق في معظمها من الكراهية الطائفية أو من معسكر التطبيع العربي
الكاره للمقاومة، أو من الغضب على موقف
إيران من الثورات العربية، وخصوصا تدخلها في
سوريا الذي أدى مع عوامل أخرى ذاتية وموضوعية، إلى فشل الثورة السورية وخلق مأساة عظيمة
للشعب السوري وشرخا عميقا في الأمة؛ أظهرت حادثة اغتيال الشهيد إسماعيل هنية أننا سنعاني
منه إلى وقت طويل، قبل أن نستطيع علاجه وتجاوزه.
كل التحليلات التي استنتجت أو حاولت إبعاد المسؤولية عن دولة الاحتلال الصهيوني وإلصاقها بإيران، الدولة التي اغتيل الرجل على أراضيها وفي حجر عاصمتها وفي ضيافتها، تفتقر إلى المنطق، وتنطلق في معظمها من الكراهية الطائفية، أو من معسكر التطبيع العربي الكاره للمقاومة، أو من الغضب على موقف إيران من الثورات العربية، وخصوصا تدخلها في سوريا.
ومن
نافلة القول؛ أن كل هذه المنطلقات في التحليل، يكمن في خلفيتها موقف مسبق من إيران، وهو
ما لا يسعف في الوصول إلى الحقيقة في حدث كبير كهذا، كان من الأولى أن يتريث من يتناولونه
في استنتاجاتهم، وهو ما لم يحدث وما زال يحدث حتى الآن، حتى إن صحيفة من وزن نيويورك
تايمز لم تبتعد عن الشطط، فنشرت في اليوم التالي لجريمة الاغتيال تقريرا يستند إلى مصادر
لم يسمها كاتب التقرير الصحفي الصهيوني "
الإسرائيلي" رونين بيرغمان، وسرد
فيه تفاصيل دقيقة لسيناريو الاغتيال، يحتاج المرء إلى أن يلغي عقله كي يصدق بعض هذه
التفاصيل، ومن الغرابة أن هذا التقرير جرى تداوله عند كثير من وسائل الإعلام والمحللين
كحقيقة.
إن
كاتب هذه السطور، غير معني بالدفاع عن إيران ولا بتبرئتها إذا توفر دليل على مسؤوليتها
عن الجريمة، غير أنه لا يرى مصلحة لإيران في ارتكابها، ولا يستطيع إغفال أن الكيان الصهيوني
وأمريكا لم يتهما إيران بها، بل انشغلا منذ لحظة إعلانها بكيفية تلافي ردود فعل تجاههما،
كما لم ينفيا مسؤوليتهما عنها، وهذا سلوك من يشعر بأنه متهم. ولعل في تهديد نتنياهو
ووزرائه لقادة المقاومة بالاغتيال أينما كانوا، إضافة لتصريحات بعض وزراء الصهاينة
وفرحهم بالاغتيال في السويعات الأولى من وقوعه، وقبل أن يمنع نتنياهو وزراءه من التعليق
على الجريمة، ما ينبئ بصاحب المصلحة فيها.
ومن
المعلوم أن أول مؤشر على الجاني في أي جريمة، ينطلق من تحديد صاحب المصلحة فيها، وقد
كان هذا كافيا لتوجيه الاتهام إلى الكيان الصهيوني، بدلا من الذهاب إلى استنتاجات من
قبيل أن إيران وأمريكا والكيان الصهيوني متفقون على قتل هنية، مقابل عدم قيام الصهاينة
بقتل حسن نصر الله!
ومن
غريب التحليلات، أن تُتهم الدولة التي انتهكت سيادتها وتم المس بأمنها وهيبتها وتلطيخ
شرفها باغتيال ضيفها! وهو اتهام لم نسمع مثله من قبل في عشرات من جرائم الاغتيال التي
تعرض لها قادة فلسطينيون (مثلا، لم يتهم أحد تونس باغتيال أبو جهاد وأبو إياد وأبو
الهول عندما كانوا وكانت منظمة التحرير في ضيافة تونس).
وحيال
كل هذا التسرع والشطط، فقد يكون من المفيد أن نتذكر ما يلي:
نجاح أي محاولة اغتيال، يعني بالضرورة أن هناك خللا أمنيا ما تعاني منه الجهة المكلفة بمنع وقوع الاغتيال. ومع تكرار حوادث الاغتيال التي تعرض لها علماء ومسؤولون أمنيون وعسكريون وسياسيون إيرانيون، وهي حوادث لا يمكن الاستهانة بها كمّا ونوعا، فمن الواضح أن إيران تعاني من اختلالات واختراقات وهشاشة أمنية.
1- لم يكن نتنياهو ليقدم على جريمة اغتيال الشهيد إسماعيل هنية ومرافقه، لولا الغطاء الأمريكي والغربي غير المحدود الذي حظي به الكيان الصهيوني منذ نشأته وحتى
اليوم، والذي تجلى بشكل صارخ وفج في العدوان المستمر على غزة، وفي مهرجان التصفيق المخزي
في الكونغرس، وفي تصدي الغرب وأمريكا لصواريخ ومسيرات إيران التي هاجمت الكيان؛ كرد
فعل على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق يوم الأول من نيسان/ أبريل 2024. ومن المعلوم
أن من يحمي الجاني مشارك له في فعله، مما يجعل حماة الكيان يتحملون المسؤولية معه عن
هذه الجريمة.
2- لو كانت إيران/ الدولة تريد اغتيال هنية أو التواطؤ فيه، فليس من
المعقول أن تفعل ذلك في عاصمتها وهو في ضيافتها، وكان من السهل عليها اختيار سيناريو
آخر في بلد آخر، يبعد كل الشبهات عنها ويحفظ ماء وجهها وهيبتها، ولا يضطرها للرد وتعريضها
لمخاطر لا يعلمها إلا الله، أو يعرضها لفقدان قوة ردعها ومصداقيتها إن لم ترد على هذه
الجريمة.
3- إن نجاح أي محاولة اغتيال، يعني بالضرورة أن هناك خللا أمنيا ما تعاني
منه الجهة المكلفة بمنع وقوع الاغتيال. ومع تكرار حوادث الاغتيال التي تعرض لها علماء
ومسؤولون أمنيون وعسكريون وسياسيون إيرانيون، وهي حوادث لا يمكن الاستهانة بها كمّا
ونوعا، فمن الواضح أن إيران تعاني من اختلالات واختراقات، وهشاشة أمنية لا بد من معالجتها.
4- لا يوجد دولة أو جماعة آو حركة أو تنظيم محصن بالمطلق ضد الاختراقات
الأمنية وضد نجاح محاولات الاغتيال فيه، وقد نجحت محاولات اغتيال في أشد الدول تحصينا، وفي أكثر المناسبات تحرزا، وفي أكثر الأمكنة صعوبة، ولأكثر الشخصيات تأمينا (وكأمثلة
يمكن تذكر اغتيال الرئيس الأمريكي جون كندي، واغتيال إسحق رابين، واغتيال الرئيس المصري
أنور السادات، واغتيال الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز).
5- اغتيال السياسيين أمر سهل إذا اتخذ قرار بذلك، فتحركاتهم في معظمها
معلنة وأماكنهم مكشوفة، بخلاف اغتيال العسكريين والأمنيين الذبن يتحركون في الظل وفي أماكن غير عامة.
6- طريقة الاغتيال وأداته تحددها الجهة التي تقدم على الاغتيال، وبما
يضمن تحقيق الهدف وسهولة التنفيذ ونجاة الفاعلين، وكل الطرق والأدوات يمكن أن تنجح
(عبوات مؤقتة أو عن بعد أو تفخيخ، إطلاق نار مباشر بسلاح فردي، تسميم بالطرق كافة،
قصف مدفعي أو جوي أو صاروخي أو بالمسيرات).
أصابع الاتهام تتوجه نحو جهة واحدة هي العدو الصهيوني لا غير، ولكي تحافظ إيران وحزب الله على هيبتهما وقوة ردعهما، ولكي يحسب الكيان ألف حساب قبل أن يقوم باغتيالات أخرى، فلا بد للرد على هاتين الجريمتين أن يكون مؤلما، وأن يكون بحجم الوعيد الذي أطلقته إيران وهدد به حزب الله.
7- تطور التكنولوجيا ووسائل الرصد والتجسس والاتصالات والتصوير والتنصت، جعلت الاغتيالات أسهل من أي وقت مضى، وجعل من التصدي لها أكثر صعوبة من ذي قبل.
8- في كثير من الأحيان يكون الخلل من قبل الشخصية التي تتعرض للاغتيال، أو من المحيطين بها بارتكابهم أخطاء أمنية؛ أساسها التراخي والركون للتحصينات والانحياز
للعاطفة على حساب العقل.
9- تعتمد الدول في حماية السياسيين على القوانين والأعراف والتقاليد
الدبلوماسية والمعاهدات الدولية التي تحرم ذلك، ولذلك لا تتحرج كل الدول في الإعلان
عن حركة سياسييها، ولولا ذلك لكان الاغتيال والتصفية حدثا يوميا في أي نزاع بين الدول.
10- أكثر وسيلة تحمي سياسيي الدول من وقوع الاغتيالات ليست الإجراءات
الأمنية، بل رد فعل هذه الدول على الجهة التي تقوم بالاغتيال. فالخلل الأمني يمكن أن
يحدث في أي دولة، لكن رد فعل هذه الدولة على الاغتيال هو ما يجعل مرتكبيه يحسبون حسابا
لذلك. وهذا ما نشهده اليوم من ترقب للكيفية التي سترد فيها إيران وحزب الله على اغتيال
الشهيد إسماعيل هنية والشهيد فؤاد شكر.
11- إن كثيرا من حوادث الاغتيال بقي الجاني فيها مجهولا، إما لعدم تحديده
من قبل المحققين، أو لأن في إخفاء الجاني مصلحة أكبر من الإعلان عنه، أو لأن أحدا لم
يعلن مسؤوليته.
إن
وضع كل ما سبق في الحسبان، يجعل أصابع الاتهام تتوجه نحو جهة واحدة هي العدو الصهيوني
لا غير، ولكي تحافظ إيران وحزب الله على هيبتهما وقوة ردعهما، ولكي يحسب الكيان ألف
حساب قبل أن يقوم باغتيالات أخرى، فلا بد للرد على هاتين الجريمتين أن يكون مؤلما، وأن
يكون بحجم الوعيد الذي أطلقته إيران وهدد به حزب الله.