منذ أن اغتيل
الرئيس
الفلسطيني ياسر عرفات، تراجعت مكانة
القدس والمسجد
الأقصى في الخطاب الرسمي
الفلسطيني، حتى كادت تغيب.. ولعل عرفات بحسّه السياسي والقيادي، كان يدرك مكانة
القدس والأقصى في وجدان الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية، وقدرتهما
كرمزين على حشد الطاقات واستنفار الجهود في مواجهة الاحتلال الصهيوني لفلسطين. فلا
نكاد نجد خطابا لعرفات لم يذكر فيه القدس والأقصى، ولم يبشر بتحريرهما، بوصف القدس
عاصمة لدولة فلسطين، وبوصف المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين،
وبوابة الأرض إلى السماء التي انفتحت في حادثة الإسراء والمعراج، وصارت سورة تُتلى
في القرآن الكريم، واستقرت في الوجدان الجمعي عند العرب والمسلمين.
وبرغم اتفاق أوسلو الكارثي الذي تنازل فيه عرفات عن أكثر من ثلاثة أرباع الأرض الفلسطينية
معترفا بالكيان، بقي عرفات محافظا على وعده بتحرير القدس والأقصى، وبسببهما رفض ما
طرح عليه في محادثات كامب ديفيد، مع إيهود باراك والرئيس الأمريكي بيل كلنتون،
فتوقفت عربة أوسلو عند تلك المحطة، حين أدرك عرفات أن نهج أوسلو يعني التنازلات
التي لن تنتهي عند الاعتراف بدولة الكيان، بل ستتعداه إلى نسف كل الثوابت
الفلسطينية، بما فيها تغيير وجدان الشعب الفلسطيني وروايته وعقيدته وهويته.. فقامت
الانتفاضة الثانية بتأييد من عرفات، عند اقتحام شارون للمسجد الأقصى، وتصاعدت حتى
حوصر عرفات ودفع حياته، ثمنا لذلك.
تهميش وتجاهل أهمية البعد الاعتقادي والهويّاتي والرمزي، في أي صراع مع أي احتلال عبر التاريخ البشري، لم تنتهجه أي حركة تحرر وطني مهما كانت منطلقاتها
غير أن من جاؤوا
بعد عرفات، واختطفوا منظمة التحرير الفلسطينية، همّشوا قضية القدس والأقصى، وساقوا
لذلك ذرائع كثيرة، كان من بينها ومن أسوئها القول بأن إبراز قضية القدس والأقصى
يُقزّم قضية فلسطين، ويحصرها في المسجد الأقصى والقدس، ويجعل من صراعنا مع
الاحتلال صراعا دينيا! وانساق مع هذه الحجة وانخرط في الترويج لها وتأطيرها، فئة
من المثقفين والسياسيين، بحسن نية أو لأسباب أيديولوجية، لا تخفى على أحد، خاصة
بعد بروز حركتي حماس والجهاد على الساحة الفلسطينية، حيث جعلت هاتان الحركتان من
قضية الأقصى والقدس، قضية مركزية في خطابهما، ومن هدف تحريرهما مدارا للفعل
الفلسطيني المقاوم للاحتلال.
إن تهميش وتجاهل
أهمية البعد الاعتقادي والهويّاتي والرمزي، في أي صراع مع أي احتلال عبر التاريخ
البشري، لم تنتهجه أي حركة تحرر وطني مهما كانت منطلقاتها. والقول في حالة كحالتنا
بأن الدفاع عن المقدسات الدينية سيجعل الغرب ينظر إلينا كمتطرفين يشنون حربا
دينية، قول متهافت، فما انفك العرب ممن خاضوا في هذا الصراع، منذ ما قبل النكبة
وحتى يومنا هذا، يرفعون شعارات القومية، والوطنية، والعلمانية، واليسار، والأممية،
وقبول الآخر، والسلام، فلم نرَ من الغرب أي تعاطف مع قضيتنا، يشكل مرتكزا لصحة
دعاوى هذه الفئة. ولعل في ما تواجهه سلطة التنسيق الأمني (غير الإسلامية بالمرة)
من تجاهل الغرب والشرق والاحتلال لهذه السلطة، ما يكفي للقول بأن لغة الابتعاد عن
الهوية والوجدان الجمعي، لا تحقق سوى الفشل الأكيد والتبعية المُذلّة والذوبان في
مخططات الاحتلال وخدمة أهدافه.
لا أحد ينتصر في
معركته مع الاحتلال إذا تخلّى عن عاصمته، فالعاصمة لها دائما مكانة عالية، مختلفة
عن مكانة غيرها، من مدن أي دولة، خاصة إذا كانت هذه العاصمة واقعة تحت الاحتلال،
أو مستهدفة منه، وما يجري لأي عاصمة يصبح حدثا تؤرخ به الصراعات ونتائجها. فسقوط
بغداد في يد التتار، ليس كسقوط غيرها من المدن في أرض الخلافة العباسية، فبسقوطها انتهت
الخلافة العباسية، وسقوط باريس تحت الاحتلال النازي كان حدثا لا يشبهه سقوط باقي
المدن الفرنسية. أما سقوط برلين بيد الحلفاء فكان سقوطا للنازية، وبداية لنظام
عالمي جديد.. وقِسْ على ذلك، منذ فتح مكة، وحتى سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي.
وإن شئت مثالا من التجربة الفلسطينية فلم يكن سقوط بيروت تحت الاحتلال الصهيوني في
اجتياح ١٩٨٢ كسقوط صور وصيدا والنبطية، فبسقوط بيروت ذهبت التجربة الفلسطينية من
مشروع التحرير إلى مشروع أوسلو والتنسيق الأمني.
القدس ليست محض
مدينة كرام الله ونابلس والخليل وغزة وحيفا ويافا وصفد وعكا.. القدس عاصمة كل هذه
المدن في الواقع وفي الحلم الفلسطيني، والمسجد الأقصى مدار هذه المدينة ونواتها،
وتدميره وتدمير رمزيته هو هدف الاحتلال الأول، ليقيم على أنقاضه هيكله المزعوم،
معلنا انتصارا تاريخيا نهائيا على الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وهو هدف معلن، لا
يخفيه الاحتلال، ولا يداري ولا يجامل فيه أحدا، بل يستنفر لأجله كل الطاقات
العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية والغيبية، ويختلق
لأجله الأساطير، ويصبّها في بوتقة طاقته العقيدية التلمودية، كجامع لكل تلك
الطاقات، من أجل إقامة الهيكل على أنقاض الأقصى.
وربما كانت القدس
المدينة الوحيدة في العالم، التي يعني احتلالها أو تحريرها انقلابا في ميزان القوى
العالمي، وإيذانا بانهيار إمبراطوريات ونشوء أخرى. فيوم استلم الخليفة عمر بن
الخطاب مفاتيحها، كان ذلك إيذانا بانحسار الإمبراطورية الرومانية وأفولها، ويوم
حررها صلاح الدين، كان ذلك تعبيرا عن انتهاء الحروب الصليبية، ويوم دخلها الجنرال
اللنبي كان ذلك تعبيرا حادا عن انتصار الغرب وانتهاء الخلافة العثمانية.
الاحتلال منذ
نشوئه يسعى ويعمل ويعرف أنه لن يحقق هدفه الأخير إلا بهدم الأقصى، وإقامة الهيكل
بكل رمزيته الدينية على أنقاض رمزنا، والاحتلال يعرف أن هدم الأقصى يعني هدما
لوجداننا الجمعي. والمفارقة أنه ما من أحد في الغرب أو الشرق يجرؤ على وصف حرب
الاحتلال علينا بأنها حرب دينية عنصرية استيطانية إحلالية، بل وتطهيرية إجرامية،
رغم إعلان الاحتلال بأن دولته هي دولة لليهود فقط (أليست هذه دولة دينية!)، فماذا
فعل الغرب العلماني الديمقراطي الحرّ المدافع عن حقوق الإنسان، حيال هذه الدولة
التي تناقض كل ما يتشدق به الغرب من قِيَمٍ ومبادئ؟
الدفاع عن الأقصى
والقدس واجب وطني وقومي وإنساني، هذا صحيح، ولكن تغييب البعد العقيدي والرمزي
والروحي للقدس والأقصى هو عمى ودسّ للرؤوس في الرمل، وتعلّق بأوهام لا توجد إلا في
رؤوس أصحابها، وهدر لطاقات لا يَستغني عنها عاقل، في صراع كصراعنا مع العدو
الصهيوني، خاصة أن المسلمين عبر تاريخهم الطويل في فلسطين، ومع تمسّكهم بعقيدتهم،
لم يقوموا في يوم من الأيام بطرد المسيحيين العرب، أو اليهود العرب من القدس
وفلسطين، بل حافظوا على وجودهم، وعلى حريتهم في العبادة، وعلى كنائسهم ومعابدهم
ومقدساتهم، وعلى مصالحهم المعيشية والحياتية.
من أراد الدفاع عن فلسطين فليدافع عن القدس، ومن أراد الدفاع عن القدس فليدافع عن الأقصى، ومن يدافع عن الأقصى فهو يدافع عن القدس، ومن يدافع عن القدس فهو يدافع عن فلسطين. تلك متوالية لا تخطئ في الاتجاهين، ووضعها في سياق الصراع ليس تقزيما للقضية، بل ضرورة لا بد منها لجمع العرب والمسلمين حول رموزهم
دعونا، إذن، من
الخوف من خسارة الرأي العام العالمي، الذي لم يرنا طوال ما يقرب من قرن ونحن نتودد
إليه ونسير في ركابه ونستخدم مصطلحاته.. إن هذا الراي العام العالمي لم يلتفت
إلينا اليوم، إلا حين شعر بأننا قادرون على إيقاع الخسائر بمشروع الغرب الاستعماري
في بلادنا، المتمثل بدولة الاحتلال وهيمنتها على المجال العربي والإسلامي.
وقد ثبت اليوم
أنه لا يكفي أن تكون صاحب حق حتى يتم الالتفات إليك، بل لا بدّ لك من التمسك بحقك
والدفاع عنه، والثبات عنده، ودفع ما يلزم من ثمن للحصول عليه..
من أراد الدفاع
عن فلسطين فليدافع عن القدس، ومن أراد الدفاع عن القدس فليدافع عن الأقصى، ومن
يدافع عن الأقصى فهو يدافع عن القدس، ومن يدافع عن القدس فهو يدافع عن فلسطين. تلك
متوالية لا تخطئ في الاتجاهين، ووضعها في سياق الصراع ليس تقزيما للقضية، بل ضرورة
لا بد منها لجمع العرب والمسلمين حول رموزهم في مواجهة الهجمة الغربية الصهيونية
ورموزها.
بهذا الفهم
يمكننا إدراك عبقرية التسمية للمعركة الجارية اليوم بطوفان الأقصى، وتسمية المعركة
التي سبقتها في عام ٢٠٢١ بسيف القدس، وهما المعركتان اللتان شهدتا أكبر قدر من التفاعل
الدولي وتعاطف الرأي العام العالمي مع الشعب الفلسطيني، برغم تسميتهما التي تحمل
بعدا عقديا وروحيا دينيا.
وخلاصة القول، إن
مكانة الأقصى والقدس ورمزيتهما مكانة لفلسطين وشعبها وقضيتها، وإذا كان عرفات قد
أطلق على الجناح العسكري لحركة فتح الذي أبلى بلاء حسنا في الانتفاضة الثانية، اسم
كتائب الأقصى، فلأنه كان يدرك قيمة الرمز في المعركة مع الاحتلال..
الصراعات تتلخص
في النهاية بالصراع على الرموز، ومن يدافع عن رموزه يصبح رمزا، ولو أن سلطة أوسلو أدركت
ذلك، لما كانت اليوم تقف مع الاحتلال في ملاحقة كتائب الأقصى وكتائب القسام وسرايا
القدس. ومن يدري فلعلها تلاحقهم لأنها من موقعها الذي اختارته تدرك سرّ تسمية هذه
الأجنحة العسكرية بهذه الأسماء وتريد الخلاص منها ومن رمزية أسمائها.