أيا تكن نتيجة الحرب الإسرائيلية المتواصلة منذ سبعة أشهر على قطاع
غزة، مترافقة بعمليات عسكرية يومية موضعية في الضفة الغربية، فهي خاسرة بالنسبة لإسرائيل وأمريكا، فيما تتراوح نتيجتها فيما يخص كلا من بنيامين
نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، وجو
بايدن الرئيس الأمريكي، بين بقاء نتنياهو في الحكم، أو خروجه وسقوط المتطرفين الفاشيين، وبين بقاء بايدن وخروجه من البيت الأبيض، وذلك لأن كلا الرجلين قد علق مستقبله السياسي على هذه الحرب، فيما كان الخلاف بينهما حول إدارتها فقط، ولم يقم كلاهما بإدارتها وفق ما تقتضيه مصلحة بلديهما، وإن بدرجة متفاوتة، ولهذا فإن ما ستسفر عنه الحرب في النهاية، لا تتطابق نتائجه مع مصلحتيهما الشخصية ومصلحة بلديهما، وتلك مفارقة غريبة حقا، خاصة ونحن كنا نظن بأن كلا من أمريكا وإسرائيل هما بلدان «ديمقراطيان» محكومان بمؤسسات تعلي من شأن مؤسسات الدولة، ولا تشهد استبدادا فرديا، أو تحكما للأشخاص مهما نالوا من مناصب الدولة العليا.
ولا شك في أن مكانة دولة إسرائيل قد تضررت كثيرا بسبب هذه الحرب، التي ارتكبت فيها جرائم حرب بيّنة، وحيث اتهمت بتنفيذ حرب إبادة جماعية، بدأت المرافعات القضائية الدولية ضدها، ولن تنتهي أو تتوقف، فقد وضعت الحرب إسرائيل في النفق الذي كان فيه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وعلى الصعيد المباشر، تم تجميد كل محاولات إسرائيل على طريق التطبيع، كذلك تآكلت تماما قدرتها على الردع، وباتت عدوا مباشرا وبيّنا لأكثر من بلد في الشرق الأوسط، أي إنها أعادت حالة الحرب التي كانت تحيط بها منذ إنشائها، وإلى حين نجحت في إبرام اتفاقيات تطبيع، ويمكن القول ببساطة إن إسرائيل أعادت عقارب الساعة للوراء أكثر من أربعين عاما، أي إلى أيام حرب أكتوبر من العام 1973، وكأن كل ما تلا تلك الحرب، من اتفاقيات كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة، وحتى أبراهام، لم تكن، مع تغير مواقع دول المواجهة، حيث كانت مصر تتصدر دول الجوار التي في حالة حرب مع إسرائيل، فيما تتصدر اليوم طوق المقاومة المواجهة لإسرائيل إيران، إضافة لحالة العزلة والإدانة الدولية، وأكثر من ذلك حالة المواجهة القضائية ضدها، حيث ليست فقط جنوب أفريقيا، بل أيضا نيكاراغوا وإيرلندا، وبلجيكا، وحتى منظمات المجتمع المدني في الغرب صارت في حالة مقاضاة ضدها في المحاكم الدولية، فضلا عن الاصطفاف الدولي ضدها في الأمم المتحدة.
باختصار يمكن القول؛ إن طموح إسرائيل في أن تكون دولة إقليمية عظمى قد تبدد، وإذا كانت قد أوحت لكل من البحرين والإمارات قبل بضع سنوات بقدرتها على حمايتهما من إيران، ما دفعهما لإبرام اتفاقية أبراهام معها، فقد تأكد لكل دول الشرق الأوسط، أن إسرائيل إنما هي نمر من ورق، فهي لم تستطع حماية نفسها، واحتاجت إلى القوة العسكرية الأمريكية والغربية لحمايتها من رشقة صواريخ ومسيّرات إيرانية، ومن صواريخ الحوثي اليمني، وإلى أقوى حاملات الطائرات الأمريكية لحمايتها من حرب محتملة مع حزب الله، أما أمريكا، فهي الأخرى قد خسرت كثيرا جرّاء هذه الحرب، ليس على صعيد ما دفعته من أموال وعتاد وسلاح، أضيف لما ضخّته من أموال وسلاح لأوكرانيا وتايوان، بل إنها انشغلت بالشرق الأوسط طوال سبعة أشهر، ما أتاح المجال لروسيا لتحسم الحرب مع أوكرانيا، وللصين لتواصل نموها وانتشارها وتفوقها الاقتصادي على أمريكا، كذلك تضررت مكانة أمريكا عالميا، ولم تعد تقنع الكثيرين، خاصة على الصعيد الشعبي، بأهليتها كدولة تقود النظام العالمي منفردة، أي إن سياسة بايدن في تعزيز مكانة أمريكا قد فشلت تماما، بعد أن خضعت سياسته تلك للاختبار في الجبهة الروسية الأوكرانية، ولهذا فإن بايدن وحملته الانتخابية يريان في نتنياهو المسبب الأساسي في إلحاق الضرر بفرصة بايدن في البقاء بالبيت الأبيض.
تكفي الإشارة هنا إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة، قد ترافقت مع ردود فعل إقليمية ودولية، لم تشهدها أي حرب أخرى، بدليل ميداني هو فتح جبهات عديدة، أكدت وحدة الساحات، فيما أديرت الحرب من الجبهة المقابلة بحنكة ودهاء، بما أربك حسابات إسرائيل، التي اعتادت شن الحروب الخاطفة طوال العقود الماضية، واعتادت جرّ من تريده للحرب وفق توقيتها ورؤيتها، وبدليل حجم وردود الفعل؛ إن كان عبر التظاهرات المتواصلة في الشرق الأوسط والعالم، وحتى داخل إسرائيل نفسها، أو في مواقف الدول التي تتواصل تباعا ضد الحرب وضد إسرائيل، وتأييدا للدولة الفلسطينية، وتتابع إعلانات الاعتراف بها، خاصة من الدول الأوروبية.
هذا ما ألحقته الحرب حتى الآن من خسائر على دولتي إسرائيل وأمريكا، يضاف لها بالطبع الخسائر البشرية في صفوف الإسرائيليين، ومن ضمن ذلك عدد المحتجزين، فالرقم 133، بصرف النظر عمن بقي حيا منهم ومن تحول إلى جثة، هو أعلى رقم من أسرى الحرب الإسرائيليين، الذين لم تجرِ بعد عملية تبادلهم مع الجانب الآخر، منذ حرب العام 73، والذين قارب عددهم ثلاثمائة أسير أطلق سراحهم بعد شهرين من وقف إطلاق النار. أما على الصعيد السياسي الشخصي أو الخاص بنتنياهو وأركان حكومته الفاشية، فقد أبقته الحرب وأبقتهم في مناصبهم، وقد تسببت الحرب في تجاوز معضلة إجراءات الإصلاح القضائي، التي أدخلت إسرائيل طوال عام ما بين تشكيل الحكومة الحالية واندلاع حربها على غزة، في نفق لاحت فيه الحرب الأهلية، وذلك وفق وصف رئيس دولة إسرائيل ومعظم الإسرائيليين أنفسهم، كذلك أغلقت الحرب شقوق الخلاف الذي نشأ بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو منذ تشكيل تلك الحكومة، حيث كانت المرة الأولى التي لم يسارع فيها رئيس أمريكي للاتصال برئيس الحكومة الإسرائيلي المنتخب مباشرة، ولا حتى بعد مرور أشهر طويلة، فيما لم يسبق لإدارة أمريكية أن تحفظت على استقبال وزراء إسرائيليين كما فعلت إدارة بايدن مع إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
والأدلة على أن مصلحة نتنياهو وشركائه الفاشيين في الحكم على إطلاق الحرب واستمرارها عديدة، وهم الذين يؤكدون ليل نهار على ضرورة مواصلتها، بما في ذلك تنفيذ اجتياح رفح، أي إطلاق العملية البرية على رفح، واحتلالها بدخولها العسكري، رغم كل الرفض الدولي، بما فيه الأمريكي، ورغم أن نتنياهو يؤكد ويصر على اجتياح رفح مدعيا أن العملية البرية في المدينة المكتظة بالنازحين، تحقق الانتصار الكامل على حماس، فإننا نعتقد الآن على الأقل، بأن مصلحته باتت في التهديد بتلك العملية أكثر من تنفيذها، ولا نقول ذلك استنادا إلى مرور وقت على ذلك التهديد، بما في ذلك إعلانه تحديد موعد انطلاق العملية، وإقراره خطة الاجتياح العسكرية، دون أن يفعل، لا في رمضان ولا بعد مرور أسبوعين على انقضاء شهر رمضان، ولا بناء على أنه يخضع عمليا للرفض الدولي، بما فيه الأمريكي والمصري، فهو يواصل قتل المدنيين، رغم مطالبة محكمة العدل الدولية لإسرائيل بتقديم ما يثبت أنها لا تقوم بحرب الإبادة الجماعية، ويواصل إعاقة وصول المساعدات الإغاثية، حيث إن بايدن يحاول إرضاء الناخبين الأمريكيين المؤيدين لإسرائيل بمواصلة حمايتها سياسيا في المحافل الدولية، ومواصلة دعمها عسكريا بحجة الفصل بين حربها على غزة وحربها على حماس، ولكن لأن اجتياح رفح يحتمل أيضا عدم تحقيق أي مظهر انتصار عسكري، من قبيل قتل أو إلقاء القبض على أحد أو كل قيادة المقاومة (السنوار والضيف)، فيما سيضطر حينها ولو بعد أسابيع لإعلان انتهاء الحرب.
واستمرار الحرب بوتيرة أخرى، كما يحدث في الضفة الغربية، وكما تجري حاليا في شمال غزة، حيث الإصرار على بقاء 60% من سكان القطاع في رفح، ومنع عودة سكان الشمال، بما في ذلك إعادة تهجير سكان بيت لاهيا، يعني بقاء نتنياهو في الحكم، ويعني أن هدف الحرب الإسرائيلية في غزة هو تحويل القطاع لمكان غير قابل للحياة، بما يؤدي لإفراغه من السكان في نهاية الأمر، والإسرائيليون باتوا بعد 80 سنة متأكدين من أن المقاومة لا علاقة لها بحماس التي ظهرت قبل أقل من أربعين سنة، بعد 20 سنة من احتلال غزة، وبعد 40 سنة من قيام إسرائيل، وحيث إن اليمين المتطرف يرفض الوجود الفلسطيني ما بين البحر والنهر، ويرى في تلك المساحة أرض دولة إسرائيل، ويرفض في الوقت نفسه الدولة ثنائية القومية، كذلك خشية أن تتحول دولته بشكل صريح لدولة فصل عنصري، مع وجود سبعة ملايين فلسطيني بين البحر والنهر، بما يعادل عدد اليهود الإسرائيليين، لذا لا بديل أمامه سوى تهجير الفلسطينيين وترحيلهم، بمن في ذلك سكان المثلث والنقب، وليس سكان غزة والضفة فقط، وبروفة التهجير هي غزة.
(
الأيام الفلسطينية)