رئيس حكومة دولة
الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يندر أن ينطق بحقيقة مسلّم بها، أياً كانت مقادير المجاز التي يحرص على اللجوء إليها بغرض حَرْف المحتوى البغيض الجلي، إلى آخر مزيّف مموّه؛ لا تغيب عنه، في كلّ الحالات، ألعاب لفظية من لسان ذرب اعتاد على الكذب والتكاذب. بين تلك النوادر ما صرّح به، يوم 3 تموز (يوليو) 2017 وهو على متن حاملة الطائرات الأمريكية USS George H.W. Bush، من أنّ دولة الاحتلال أقرب إلى حاملة طائرات أمريكية هي الأضخم على الإطلاق.
ولا يمرّ يوم، ليس خلال السنوات الـ15 ونيف التي قضاها في منصب رئيس حكومة الاحتلال بل على امتداد سائر عقود الرعاية الأمريكية للكيان الصهيوني، من دون أن تُكتب صفحة جديدة في سجلّ هذه الحاملة/ الدولة؛ ويستوي أن يكون في هرم السلطة أمثال دافيد بن غوريون وغولدا مائير وإسحق رابين وإيهود باراك تارة، أو أمثال مناحيم بيغن وإسحق شامير وأرييل شارون ونتنياهو تارة أخرى. وأيضاً، بالطبع، ليست الفوارق كبيرة بين رؤساء أمريكا الديمقراطيين أمثال فرنكلين روزفلت وهاري ترومان وبيل كلنتون وباراك أوباما وجو بايدن، والرؤساء الجمهوريين أمثال دوايت أيزنهاور وريشارد نكسون ورونالد ريغان وجورج بوش (الأب والابن) ودونالد ترامب.
ليس مستغرباً أن تكون إقامة (أو بالأحرى: افتعال) الصلة بين العداء للسامية والعداء للصهيونية محوراً مركزياً في السجالات الداخلية التي تعصف بالمجموعات اليهودية الناقدة
لافت، إلى هذا، أنّ إدراك الجاليات اليهودية الأمريكية لهذه الحال من انقلاب «الدولة اليهودية» إلى حاملة طائرات أمريكية هائلة لم يكن على الدوام متجانساً أو يتصف بدرجات توافق عالية، من جانب أوّل؛ كما أنه، من جانب ثانٍ تتناوله هذه السطور تحديداً، امتدّ، أو لعله تسلل ببطء ولكن بانتظام، إلى شؤون ذات حساسية إيديولوجية وسياسية ودينية وثقافية تتجاوز اعتبارات التحالف والمصالح المشتركة بين واشنطن ودولة الاحتلال، لأنها إنما تفتح ملفات العلاقة بين العداء للسامية والعداء للصهيونية. ما يُثقل وطأة هذه السجالات، أو بالأحرى يُخرجها عن إطار تبادل الرأي ويُلقي بها في دوامة الخصام أو حتى النزاع والتراشق باتهامات شتى، هو أنها تزجّ اليهود أنفسهم في الأتون؛ خاصة حين تتأثر الانحيازات بسياقات نوعية فارقة مثل حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة ضدّ قطاع غزّة، أو التوتر العسكري الراهن مع إيران.
للمرء، على سبيل اعتماد صيغة تجريبية ذات قيمة عملية جماعية أو غير منفردة، أن يتناول حالة منظمة «صوت يهودي من أجل السلام» الأمريكية/ العالمية؛ لجهة نضالها، الخارجي، من أجل يوم يشهد «تمتّع قاطني المنطقة من النهر إلى البحر بالحرية والمساواة والكرامة»؛ ونضالها، داخل الجاليات اليهودية، من أجل الإقلاع عن حمل الحقائق المزيفة أو المفبركة، وخاصة في وسائل الإعلام ومجموعات الضغط المناصرة للسياسات الإسرائيلية. وكانت وقائع ما بعد «طوفان الأقصى» مناسبة فريدة، حمّالة مهامّ قصوى ودلالات عابرة للأزمنة والأمكنة، حول معنى وجود منظمات يهودية تتوخى الحدود الدنيا من التوازن في التعامل مع حقائق الصراع.
وليس مستغرباً أن تكون إقامة (أو بالأحرى: افتعال) الصلة بين العداء للسامية والعداء للصهيونية محوراً مركزياً في السجالات الداخلية التي تعصف بالمجموعات اليهودية الناقدة، في كثير أو قليل، للسياسات الإسرائيلية؛ وأنها انقلبت مراراً، وتنقلب هذه الأيام تحديداً، إلى سوية اختلاق فزاعات شتى (على رأسها العداء للسامية، وجلد الذات، والعدمية الدينية…) في وجه مواطنين يهود يعلنون رأياً مناهضاً لما يفرضه التيار الرئيسي المناصر لدولة الاحتلال. جديرة بالإشارة أيضاً حقيقة أنّ إجراءات التضييق على الفريق الناقد لم تعد تقتصر على الصحف أو الأقنية أو الموقع أو وسائل الإعلام في غالبيتها الساحقة، بل صارت تهيمن على الجامعات والكونغرس الأمريكي ودوائر البيت الأبيض، وتوجّب أيضاً أن تنتقل إلى الكنائس المسيحية والكُنُس اليهودية.
والحال أنّ السائد المعمم في الفقه اليهودي، حول التاريخ والذاكرة مثلما حول الكارثة وتعريف الضحية تحديداً، يميل إلى تمييز نرجسي فاضح لا يليق بحقائق السجلّ التاريخي، ولا يساوي بين ضحية وضحية أخرى في الكرامة الإنسانية وحقوق واستحقاقات الذاكرة. وأبرز «فقهاء» اليهود في هذا المضمار يظلّ إيلي فيزل (حامل جائزة نوبل للسلام لعام 1986) الذي رفض أي وجه للمقارنة بين الجثث البريئة التي يحفظها الأرشيف التاريخي هنا وهناك في أرجاء البسيطة؛ وبين الجثث، «الفريدة المنفردة» التي تهاوت واحترقت في إطار الهولوكوست. رفض فيزل امتدّ وتوسّع وتعمم، فشمل حتى الاستخدام المجازي (الركيك أصلاً/ في واقع الأمر) لتعبير «الهولوكوست الجديد» و«أوشفيتز الجديدة» عند وصف جرائم الصرب في البوسنة والهرسك. ولكي يقطع الشك باليقين، سافر ذات يوم إلى سراييفو خصيصاً، ليناشد الصحافيين الكفّ عن هذه «الميوعة» في ابتذال ما هبّ ودبّ من مصطلحات مقدسة!
وليس الأمر أن فقه الذاكرة اليهودي لا يلمس طابع المأساة بصدد ما جرى ويجري من كوارث هنا وهناك، بل المنطق ببساطة هو التالي كما جرى على لسان فيزل: «أوشفتز سوف تظلّ فريدة في التاريخ المسجّل لأنها انطوت على إبادة شعب بأكمله، حتى آخر طفل وآخر أسرة وآخر نفس. لا أحد سيقنع الثاني بأن رادوفان كراجيش وراتكو ملاديش، على قسوتهما، يسعيان لإفناء آخِر مسلم». حسناً، وماذا إذا كانا يسعيان لإفناء المسلم ما قبل الأخير مثلاً؟ أو يحذوان حذو أبناء عمومتهما من الفاتحين البيض في إفناء عشرات الملايين من الهنود الحمر والأقوام الأصلية، وترك الآلاف فقط كعيّنات لتسميد العالم الجديد في أمريكا البكر، كمثال ثان؟
خطاب التيارات اليهودية المناصرة لدولة الاحتلال على نحو مطلق، المتعامية قصدياً عن وقائع الإبادة الراهنة ضدّ قطاع غزّة، التي تتبنى بين حين وآخر دعوات لإبادة كلّ وأيّ فلسطيني حيّ في القطاع… لا يكفّ عن الاقتداء بما أشاعه أمثال فيزل من تمييز بين «شعب» يهودي كان ضحية الهولوكوست، بصرف النظر عن الأقوام والأعراق والأوطان؛ وبين ضحية فلسطينية، أو عراقية أو بوسنية أو أفغانية… تُكدّس جماعياً تحت صفة «المسلم». وهذا الأخير، المسلم حصرياً، معادٍ للسامية حكماً، بطبعه الخَلْقي والخُلُقي، رغم انحداره من محتدٍ ساميّ لا جدال حوله.
لا عجب، كذلك، في أنّ نتنياهو (المتفاخر بصورة دولة الاحتلال كحاملة طائرات أمريكية هائلة) هو نفسه الذي يتشدق صباح مساء بأنّ حكومته لا تقود دولة موز، وأنّ نصوص التوراة هي التي تهدي جحافله الفاشية في ارتكاب الإبادة الجماعية وشتى صنوف جرائم الحرب. وعلى أكثر من شاكلة واحدة، ينخرط نتنياهو (على راس يمين صهيوني فاشي متدين متطرف) في إشعال النيران من حول ذلك الخلاف الأعرض الذي ينتهي إلى تشريح شخصية اليهودي ما بعد الهولوكوست؛ وكيف يتوجب أن تُطوى، إلى الأبد كما يُفضّل، تمثيلاتُه السالفة، التي سادت قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية: صورته خانعاً، ذليلاً، مستسلماً، مُساقاً إلى معسكر أوشفيتز ومواقع «المحرقة» الأخرى. في المقابل، ترعرع الحلم بأن تحلّ محلّها، مرّة وإلى الأبد أيضاً، صورة اليهودي الجديد: «الصبّاري» المقاتل ضدّ «الوحش الأصفر» حسب الكليشيه المعتمدة في الأدلة السياحية الإسرائيلية، الذي تُشتقّ شخصيته من سمات نبتة الصبّار الشوكية الصلبة في وجه الخارج، والطرية العصارية في الداخل.
ليس دون سلسلة مآزق رديفة، بالطبع، لا تبدأ من تقزّم كيان استعماري استيطاني عنصري عسكري بدأ ويتواصل في هيئة مخفر أمريكي وإمبريالي، ولا تنتهي عند توظيف الذكاء الاصطناعي لارتكاب جرائم الحرب العشوائية الأبشع.
المصدر:
القدس العربي