حين تعلم أن استعمال كلمة "
فلسطين" تضعك في خانة اتهام قد
يلقي بك في غيابة جب سجن بلا قرار، ستحمد بالتأكيد ربك على نعمة الهراوة التي
ستنزل على رقبتك، لأنك شعرت أن دمك العربي تحرك في عروقك، ولم تجد بدا من المسارعة
إلى الشارع هاتفا باسم المقاومة، تلبية لندائها، ولو بالحد الأدنى من التضامن
والنصرة، نعم، في بلاد عربية إسلامية حكم على أحدهم عشرة أعوام من السجن، فقط لأنه
غرد باسم فلسطين، والتهمة "دعم الإرهاب" في بلاد أخرى ينعم فيها
المواطنون بمجرد هراوة عمياء يلقي بها عليك رجل أمن "مأمور" بزعم أنك
مسست "هيبة الدولة" فقررت أن تتوجه لسفارة العدو في بلدك لتبصق عليها
على الأقل، ولو على بعد كيلو متر، بعد أن منعت من الوصول إليها، وبين حكم السجن
عشرة أعوام، وهراوة ـ مجرد هراوة ـ تداعب جزءا ما في جسدك، تشعر أنك تعيش في
"نعيم" يوصلك إلى أن تقول بملء الفم: الحمد لله على نعمة الهراوات!
تلك هي الحالة التي أوصلك إليها نظام عربي رسمي، تسبب لك بشبه عاهة
مستديمة أو شرخ بالغ في روحك، حين اصطف بكل صفاقة وصلف إلى جانب عدوان وحشي بشع
تراه صبح مساء يبطش بإخوتك، ويمزق حياتهم بإجرام لم تشهده ولم يشهده أحد من
العالمين في تاريخنا المعاصر، وبين هذا وذاك، تنداح على الرأس المتعب جملة من
الأفكار، هي كالحجارة التي تنزل على الرأس المتعب..
ـ فالهتاف للمقاومة ليس تمردا على الدولة القطرية والنظام المحلي
العربي. ولا تحديا لـ "هيبة الدولة" كما يزعمون، بل هو تعبير عن شوق
الضمير الجمعي العربي للبطل والملهم وبحث عن نموذج كريم يستحق الفخر، في زمن تسيّد
فيه الإمعات والرويبضات والمأجورون من نخب الإعلام ومذيعي الفضائيات، والسؤال
الجارح هنا: لو هتفوا لعمرو دياب.. أو
إليسا.. أو ميسي.. يا ترى هل هذا يكون استقواء على الدولة ومسا بهيبتها؟ أنا أفهم ـ
وفهمي متواضع وعلى قدي! ـ أن من أول
استحقاق هيبة الدولة أن تتساوق مع مشاعر شعبها، وتستجيب لنداء ضميره الجمعي الذي
انتفض نصرة لغزة ومقاومتها، لا أن تقول شيئا في العلن وتفعل عكسه في السر!
الهتاف للمقاومة ليس تمردا على الدولة القطرية والنظام المحلي العربي. ولا تحديا لـ "هيبة الدولة" كما يزعمون، بل هو تعبير عن شوق الضمير الجمعي العربي للبطل والملهم وبحث عن نموذج كريم يستحق الفخر، في زمن تسيّد فيه الإمعات والرويبضات والمأجورون من نخب الإعلام ومذيعي الفضائيات..
ـ حين يطالب العربي بتوفير الحماية لعربي
آخر يتعرض للمذبحة والتجويع والإبادة، فهو يطالب في الوقت نفسه بتوفير الحماية
لنفسه أيضا، فالخطر الذي يصيب
غزة يمكن أن يصيبه أيضا والبشاعة التي يراها في غزة
زلزلت كيانه وجعلته يشعر أنه في مهب الريح، ولهذا لا يلومن أحد خروج المظاهرات عن
المألوف، هذا طبعا في البلاد التي يسمح بها بالتعبير عن
الرأي، وجل بلادنا مقهورة
مقموعة ممنوع فيها فتح الفم إلا عند طبيب الأسنان كما يقال.
ـ الشعب العربي بات يعيش حالة من الرعب
المزلزل.. فما الذي يضمن أن لا يتعرض لعدوان مشابه لما تعرض له أهلنا في غزة؟ خاصة
وإن العدو الصهيوني المجرم يهتف ليل نهار "الموت للعرب" وليس
للفلسطينيين فقط. ولهذا حين يخرج هذا الشعب للاحتجاج فهو ينتصر لنفسه أولا قبل أن
ينتصر لغزة.
ـ أما حكاية الاستقواء على الدولة. فتلك
حكاية معقدة، فالدولة ليست حكومات وأجهزة. بل هي أيضا أرض وشعب. ومن حق هذا الشعب
أن يأمن على. نفسه وعلى إخوانه في أقطار
العرب. ومن حقه أن يشعر بقوه نظامه في توفير الحماية له من الأخطار التي لا يخفيها
عدو متغطرس أحمق لا يحترم عهودا ولا مواثيق.
ـ في حكاية رفع السقوف. وسخونة الشعارات
التي يرفعها المتظاهرون في شوارع مدن العرب..
ما جرى في غزة لم يبق لا سقوفا ولا محرمات. فقد فاق العدوان كل تصور.
ولم يبق عقلا في رأس عاقل عربيا كان أم أجنبيا، فضلا عن أن النظام العربي نفسه خرق
ومزق كل سقف متوقع في الاصطفاف مع العدو وحماية ظهره، ومده بأسباب المنعة واستدامة
العدوان؟
ـ الجموع التي تخرج إلى الشوارع في
الأردن وغيره تحركها حرقتها على جراح غزة ومعاناتها ودعما لمقاومتها. محاولات
"تجيير" هذا الحراك لصالح جماعة أو حزب هو تقزيم ومسخ للعقل الجمعي
العربي الواعي. وبنفس القدر تحميل الجماعة أو الحزب "وزر" الحراك. إهانة
لمشاعر الناس وتبرئة للعدو من جرائمه.
ـ الشعب العربي في مشارقه ومغاربه بات
اليوم خائفا من المستقبل، فهو من جهة يشعر بواجب الانتماء لقطعة الأرض التي يعيش
عليها، ويعرف أن أمنه من أمنها، والحفاظ على هذا الأمن يساوي الحفاظ على روحه
وأرواح أهله، وفي الوقت نفسه يشعر أنه أمام عدو شرس يهتف صباح مساء "الموت
للعرب" لا للفلسطينيين فقط، وفوق هذا يستبيح قبلته الأولى، ويرتكب أبشع ما
سجله التاريخ المعاصر من مذابح وإبادة جماعية وفصل عنصري، ومع هذا لا يجد من نظامه
الرسمي إلا التواطؤ مع العدو والتنسيق معه، بل إنه يجرم المقاومة وكل ما يمت إليها
بصلة، ويصنفها في خانة "الإرهاب" فأنى له أن تنسجم روحه مع نفسها؟ وأنى
له أن يطيع ولي أمر، لم يراع من استحقاقات الولاية شيئا، فلا أطعم من جوع ولا آمن
من خوف؟
ومع هذا، نقول: الحمد لله على نعمة الهراوة، وذاك درك من
"النعم" أوصلنا إليه نظام عربي رسمي، بات اليوم عاريا حتى من ورقة
التوت، فأنى يطالب المواطن المسكين بالولاء والانتماء له؟