في خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس الأمريكي يوم الخميس الموافق 7
مارس، قال جو بايدن إنّه وجّه القوات الأمريكية في مهمّة طارئة لإنشاء ميناء مؤقت
على ساحل غزّة لاستقبال السفن المحمّلة بالماء والغذاء والدواء والمساعدات
الإنسانية إلى غزّة، مشيراً إلى أنّه لن يتم نشر جنود أمريكيين فيها. وفي
التفاصيل المتعلّقة بهذه المهمة، فإنّ إنشاء الميناء المؤقت سيستغرق وفق المسؤولين
الأمريكيين حوالي بضعة أسابيع من التخطيط والتنفيذ، كما أنّ قبرص ستكون بمثابة
منصّة الانطلاق لهذه العملية وللمساعدات المفترضة التي سيتم تحميلها باتجاه غزّة.
أثارت هذه المبادرة انتقادات واسعة كما طرحت تساؤلات حول توقيتها،
فحواها، وأهدافها الحقيقية لا سيما في ظل استمرار حملة الإبادة الجماعية التي
تقودها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزّة وسط دعم منقطع النظير من العديد من الدول
الغربية لا سيما الولايات المتّحدة وبريطانيا وألمانيا.
لناحية التوقيت، تأتي هذه المبادرة في ظل ازدياد الضغط الشعبي داخل
الولايات المتّحدة على الرئيس بايدن لمساندته اللامحدودة لإسرائيل وجرائم الإبادة
التي تشنها تل أبيب بقيادة نتنياهو، وهو ما يؤثر بشكل أساسي على حظوظه في
الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في شهر نوفمبر المقبل. علاوةً على ذلك، تأتي هذه
المبادرة بالتزامن مع حلول شهر رمضان، حيث تشير التخوفات الأمريكية والغربية إلى احتمال انفجار الوضع خارج غزّة ما لم يتم تدارك الأمر.
ومن هذا المنطلق، تخدم هذه المبادرة التي يتم التسويق لها على أنّها
مبادرة إنسانية الهدفين في تخفيف الضغط على بايدن داخليا، كما أنّها تحاول امتصاص
الغضب في العالم الإسلامي من خلال الترويج للمبادرة. لكن الأهداف الحقيقية لهذا
الطرح تذهب أبعد من ذلك، فالولايات المتّحدة متهمة اليوم بما قدّمته من دعم
مباشر، غير مسبوق، وغير محدود لإسرائيل سياسياً، ودبلوماسياً، ومالياً، وعسكرياً،
واستخباراتيا في المساهمة بقوّة في جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل ضد
الفلسطينيين.
روّج البعض سرّاً خلال الأشهر الماضية أنّ مصر متورطة في تهريب الأسلحة إلى الفلسطينيين فقط من أجل محاولة الضغط على القاهرة للقبول بعملية تشريد الفلسطينيين داخل أراضيها.
ولو أرادت واشنطن المساعدة فعلاَ لكان بإمكانها الضغط على إسرائيل من
خلال إيقاف
المساعدات المالية والعسكرية لها بدلاً من ادّعاء الضعف وانعدام
الخيارات. وتساهم الازدواجية الأمريكية في تآكل مصداقيّة حججها بخصوص الميناء،
فلماذا يتم اللجوء إلى عملية تتضمن بناء ميناء في الوقت الذي تتكدّس فيه شاحنات
المساعدات على المعبر البري مع غزّة؟ لماذا لا تقوم الولايات المتّحدة بفتح المعبر
بدلا من إنشاء ميناء؟ لماذا تلقي واشنطن
مساعدات عبر الجو في الوقت الذي تستمر فيه في إرسال القنابل والأسلحة التي يتم قتل
المدنيين الفلسطينيين بها إلى إسرائيل؟
الأمر الآخر المثير للاستغراب أنّ فترة تنفيذ المبادرة تستغرق شهر
رمضان تقريبا بحسب التصريحات الأوّلية، هذا يعني أنّها تُستخدم لتجاوز الضغوط
المتعلقة بضرورة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار كان من المفترض أن يحصل قبيل
رمضان. كما يتم استخدام المبادرة على ما يبدو لشراء الوقت لإسرائيل للاستمرار في
حملتها العسكرية وجرائمها ضد المدنيين العزّل من النساء والأطفال والشيوخ.
الولايات المتّحدة والرئيس الأمريكي تحديداً كان واضحاً إزاء ضرورة تأمين الوقت
اللازم لإسرائيل لاستكمال عمليتها العسكرية. واشنطن استخدمت في أكثر من مناسبة
الفيتو لتعطيل الجهود الدبلوماسية لوقف إطلاق النار.
يبدو الموضوع من الناحية الشكلية مجرّد عبث هدفه امتصاص الضغط، وتحسين صورة واشنطن، وكسب الوقت للحليفة إسرائيل لاستكمال الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
لا بل إنّ واشنطن قامت بإيقاف الدعم المالي عن الأونروا بناءً على
ادعاءات إسرائيلية ثبت فيما بعد أنّها محض أكاذيب كما كل الروايات الإسرائيلية.
ونتيجة للدعم الأمريكي لإسرائيل، هناك اليوم أكثر من 100 ألف فلسطيني تم قتلهم أو
جرحهم غالبيتهم من الأطفال والنساء، و80% من سكان القطاع يتم شن
حرب تجويع شرسة
ضدّهم إلى جانب حملة التشريد والحملة العسكرية التي تستهدفهم. وفقاً للأونروا،
فانّ الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل خلال بضعة أشهر من حملة الإبادة التي تشنّها
تجاوز عددهم الأطفال الذين تمّ قتلهم في نزاعات مختلفة حول العالم خلال السنوات
الأربع الماضية.
عندما تمّ سؤال الرئيس الأمريكي "من سيقوم بتأمين المرفأ"
المزمع إقامته، قال جو بايدن "إسرائيل"! وفي الحقيقة، فإنّ صحيفة
الجيروسالم بوست نسبت إلى مصدر مقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قوله إنّ
المبادرة هي مبادرة لنتنياهو كان قد طرحها على الرئيس الأمريكي في شهر أكتوبر
الماضي وذلك بهدف تجاوز سلطة حماس حيث يتم توزيع المساعدات المفترضة مباشرة.
ولذلك، هناك من يرى هذه المبادرة أيضاً من زاوية أنّها محاولة تجاوز مؤسسات دولية
مثل الأونروا، لا بل الإجهاز عليها في الوقت الذي يتم فيه استخدامها كذلك لتحسين
صورة الولايات المتّحدة وإعفاء إسرائيل من مسؤوليتها كدولة محتلة.
من الناحية الجيوبوليتيكية، هناك من يرى في المبادرة محاولة للإطباق
كلياً على غزّة من خلال تجاوز المعبر البرّي والدور المصري المفترض. لطالما لعبت
مصر دوراً محورياً في المسائل المتعلقة بغزة نظراً لأفضليتها الجغرافية، تجاوز
المعبر باعتقاد هؤلاء يؤدي إلى إنهاء اعتماد غزّة على المعبر مع مصر اقتصادياً،
وسياسياً، وربما عسكرياً أيضا وتسهيل تهجير الفلسطينيين عبر البحر. إذ روّج البعض
سرّاً خلال الأشهر الماضية أنّ مصر متورطة في تهريب الأسلحة إلى الفلسطينيين فقط
من أجل محاولة الضغط على القاهرة للقبول بعملية تشريد الفلسطينيين داخل أراضيها.
ومع أنّ القاهرة لم تفعل ذلك، إلاّ أنّ عدم إدخالها المساعدات من خلال المعبر
وفرضها إتوات على الفلسطينيين الراغبين بالخروج دليل على المكان الذي تقف فيه الآن.
في نهاية المطاف، يبدو الموضوع من الناحية الشكلية مجرّد عبث هدفه امتصاص الضغط، وتحسين صورة واشنطن، وكسب الوقت للحليفة إسرائيل لاستكمال الإبادة
الجماعية بحق الفلسطينيين. لكن من الناحية العملية، يؤدي الميناء إلى عزل غزّة
تماما عن العالم ويضع بحرها تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة وهو الغرض الأساسي
على ما يبدو لاستكمال الحصار والعزل في ظل إقفال المعابر البرية.