الصهاينة العرب كيان ماديّ حقيقي ولم يعد شكلا من أشكال التحقير أو
التصنيف الشعبي والسياسي. الصهاينة العرب والصهيونية العربية "بألف لام
التعريف" كيان مادي سياسي إعلامي واقتصادي ضارب بعمق في قلب المنطقة ينهض
بأخطر أدوار الإسناد المادي والمعنوي كما رأينا ذلك واضحا جليا في محرقة
غزة
الأخيرة.
مدّت الصهيونية العربية جسرا بريا وجويا وبحريا لإنقاذ الصهيونية الإسرائيلية
وإمداداها بالماء والغذاء واللباس والدواء والسلاح منذ قرابة الستة أشهر. كما أفردت
الصهيونية العربية أذرعها الإعلامية ومنصاتها التواصلية لشيطنة المقاومة وتحميلها
مسؤولية ما حدث في قطاع غزة من مجازر ومحارق.
الصهيونية العربية بنيةٌ ووظيفةٌ ومنهجٌ وتاريخ بل يمكن اعتبار
ولادتها سابقة على نشأة الكيان المحتل لأنها خرجت من رحم
الاحتلال العسكري
البريطاني والقوى العربية المسلمة المنضوية تحت لوائه.
في حدّ الصهيونية العربية
هي عبارة عن جهاز حركيّ مركّب يكوّن بنيتها الداخلية والخارجية فهي
لست فكرة بل مجموعة من الأدوات التنفيذية القادرة على الإسناد العسكري والحرب
النفسية والدعاية الإعلامية والإمداد اللوجستي والاختراق الاستخباراتي والتجنيد
وحتى الاغتيال. وهي قادرة كذلك على الدعم الدبلوماسي والسياسي وحشد التحالفات ومنع
اجتماع الصوت العربي وتشتيت كل القوى الحية القادرة على تهديد المصالح الصهيونية الإسرائيلية.
انتصارات غزة لا يمكن حصرها مهما كانت تكلفة المعركة ثقيلة ورغم الدماء والشهداء والتضحيات لأنها أنارت الطريق أمام الأجيال القادمة حتى لا يبقى لها من عذر التعلل بأنها لم تكن تعلم وأنها لم تتبيّن عدوّها الحقيقي الذي فاق إجرامه كل جرائم صهيون.
لا يمكن تحديد النشأة الحقيقية لهذا الكيان الموازي لكن تاريخ الصراع
مع الكيان الأم يؤكد أن الصهيونية العربية قد نشأت في نفس الظروف والشروط التي نشأ
فيها الورم الأكبر. لأن سجلات النشأة والحروب التي مكنت المحتل من بسط سيطرته على
مساحات واسعة من القرى والمدن
الفلسطينية تؤكد أن التواطؤ والتخادم العربي كان
محوريا في إنجاح عمليات الاستيطان وتثبيتها.
صحيح أن القصف الإعلامي المكثف الذي مارسته الأبواق العربية وخاصة
القومية منها في مصر وسوريا والأردن بشكل خاص قد أعمى العقل العربي عن الدور
المحوري الذي لعبته الصهيونية العربية في حسم الصراع لصالح الكيان الأمّ لكنّ
الأحداث الأخيرة كشفت بجلاء حجم التزييف والتغطية على دور الصهاينة العرب في سقوط
فلسطين.
لم تكن ولادةُ الكيان القيصرية ضامنةً لبقائه وحيدا دون إنشاء حزام
صلب حوله يمنع سقوطه ويمدّه بكل أسباب الحياة ممثلا في أنظمة دول الطوق في الخليج
ولبنان والأردن ومصر وسوريا بشكل خاص. وهي الكيانات التي حافظت على خطوط تماس
هادئة تضمن تمدد الكيان الوليد وتمنع عنه زحف الجماهير لدعم المقاومة الفلسطينية.
أما آخر أطوار الانكشاف التي عرّت القسم الأكبر من جسد الصهيونية
العربية فقد برزت مؤخرا مع ارتفاع سرعة قطار التطبيع الذي أبان عن جهاز أخطبوطي
عميق ومتشعب صار يجاهر بالذود عن الكيان الأم ولو كلفه ذلك حياته هو. إن استبسال
النظام المصري والأردني والاماراتي والسعودي والبحريني مثلا في شيطنة المقاومة وفي
مطالبة المحتل العلنية بالقضاء على غزة وعلى خلايا الصمود فيها يمثل آخر أقنعة
الاستبداد العربي.
الوظيفة والمدى
لا يمكن اليوم إغفال النشاط القوي لهذا الجهاز الاستثنائي سواء عبر
الهجمات الإعلامية الكبيرة التي تتعرض لها المقاومة في غزة أو عبر شيطنة عملية
طوفان الأقصى وصولا إلى تكفير فصائل المقاومة واتهامها بالعمالة لإيران مثلا.
منصات إعلامية رسمية وغير رسمية تقذف يوميا وابلا من المقالات واللقاءات
التلفزيونية والبرامج الإذاعية والتغريدات والمقاطع القصيرة من أجل منع طوفان
الأقصى من كسر الجدار السميك الذي يحصّن الصهيونيتين اليهودية والعربية.
إن خروج الأذرع العربية إلى ساحة المعركة اليوم عارية منكشفة من كل
غطاء يؤكد أن الحلف الصهيوني العربي قد دفع بكل جنوده إلى ساحة المعركة بسبب ما
يعانيه من نزيف قاتل. لأن خسارة هذه الجولة المصيرية سيشكل منعرجا حاسما يُنهي طور
العلوّ الكبير ويؤذن ببداية نهاية حلف المحتل وحزامه الصلب.
ترنّح الصهيونيتين يكشفه كذلك الفزع الغربي الكبير من مسارات المذبحة
الكبرى التي صدّعت جدار سردية الصهيونية العالمية من جهة وفضحت حجم التواطؤ الرسمي
العربي مع المحتل وأحرقت إسطوانات حقوق الإنسان. هنا فقط تكمن دلائل هزيمة المحتل
في المعركة الأخيرة وهي الهزيمة التي تتجاوز في قيمتها وتأثيرها المستقبلي أعداد
الضحايا وحجم الخسائر المادية. إنها هزيمة الرواية برمتها.
لم تكن ولادةُ الكيان القيصرية ضامنةً لبقائه وحيدا دون إنشاء حزام صلب حوله يمنع سقوطه ويمدّه بكل أسباب الحياة ممثلا في أنظمة دول الطوق في الخليج ولبنان والأردن ومصر وسوريا بشكل خاص. وهي الكيانات التي حافظت على خطوط تماس هادئة تضمن تمدد الكيان الوليد وتمنع عنه زحف الجماهير لدعم المقاومة الفلسطينية.
اليوم وقد كشرت الصهيونية العربية عن كامل أنيابها ومخالبها فإنها لن
تستطيع العودة إلى ما قبل المذبحة مهما اجتهدت في ذلك بل إنها ستواصل الهروب إلى
الأمام إمعانا في التطبيع بعد أن استقلت نهائيا نفس القاطرة مع المحتل.
هذا الوضع هو الذي يؤكد قناعة سابقة مفادها أن تحرير الأرض من الكيان
المحتل لن يكون ممكنا قبل التحرر من الصهيونية العربية التي هي أخطر خناجر
الاحتلال. فهي التي أحكمت حصار غزة وكبلت أهلها حتى الموت جوعا ليسهل قنصهم من قبل
عصابات المحتل وهي التي منعت عن شعبها الماء والسلاح والغذاء والدواء وصولا إلى
المشاركة الفعلية في العمليات العسكرية على الأرض.
لم يخفف شهر رمضان من نشاط الصهاينة العرب بل حوّلوا المناسبة
الدينية إلى فرصة جديدة تستثمر فيها أبواقهم النصّ الديني لنسف شرعية المقاومة من
جهة وإطراء الأمن والأمان وأكاذيب التعايش والسلام مع القتلة والمجرمين. عطّلوا كل
الروافع الدينية القادرة على ترجيح كفة المقاومة وسطوا على منطوق النص والحديث
خدمة لمشروع الاحتلال واستثمارا للعطب الذي أصاب الوعي العقائدي العربي منذ قرون.
انتصارات غزة لا يمكن حصرها مهما كانت تكلفة المعركة ثقيلة ورغم
الدماء والشهداء والتضحيات لأنها أنارت الطريق أمام الأجيال القادمة حتى لا يبقى
لها من عذر التعلل بأنها لم تكن تعلم وأنها لم تتبيّن عدوّها الحقيقي الذي فاق
إجرامه كل جرائم صهيون.