على الرغم من الموقف الشعبي
الفلسطيني
والعربي والإسلامي والإنساني العام، الذي اتسّم بأعلى درجات الإيجابية من طوفان
الأقصى وتداعياته، من مقاومة وصمود شعبي في قطاع
غزة، إلا أن عددا من الكتاب
اتجه إلى نقد موقف الأمة (العربية والإسلامية) في تحركها، سواء أكان لنصرة
المقاومة، أم في الضغط لوقف إطلاق النار، أم في التعبير عن الغضب في النزول إلى
الشوارع، لوقف المجزرة من تقتيل جماعي وتدمير، في قطاع غزة.
ووصل النقد بالبعض إلى وصف حال الأمة، ككل،
بالغثاء والعجز والخذلان. وذلك حتى من دون "إلا الذين.." أو "منهم
من"، أو تخصيص نقد على فئة ما من فئات الأمة، أو تبرئة فئات.
وإن الوصول إلى هذا البُعد المهين في نقد
الأمة، يرجع إلى هول المجزرة، التي تعرض لها الشعب في حياته، وتدمير بيوته
ومعماره. وقد اتسّمت هذه المجزرة بالإبادة الإنسانية، وتدمير للمعمار، لمدة
متواصلة على مدار الساعة، ويوما بعد يوم. وقد تجاوزت عملية الإبادة والتدمير،
الخمسة أشهر. ودخلت في الشهر السادس، مع إعلان التصميم من قِبَل "مجلس
الحرب" الصهيوني على مواصلة ذلك، مع التوسّع في ظاهرة التجويع، والحرمان من
الماء والدواء والغطاء. وذلك حتى تحقيق الأهداف التي أعلنها نتنياهو.
لذلك، استحقت هذه المجزرة وما صحبها من دمار
وعدوان، أن تندفع الملايين من أبناء الأمة العربية والإسلامية، لتنزل إلى الشوارع،
لإجبار مرتكبي الجريمة الكبرى ومناصريهم على وقفها، وبأسرع ما يمكن، بل ومحاسبتهم
ومعاقبتهم. وذلك لإجبار الدول العربية والإسلامية، أن تتحدّ لاتخاذ
مواقف عملية،
تفرض على أمريكا وأوروبا بأن تضغطا على الكيان الصهيوني لوقف إطلاق النار، كما
الامتناع عن دعم الجيش الصهيوني بالسلاح والعتاد، وعدم تغطية الحكومة الصهيونية،
وحمايتها من صدور قرارات من هيئة الأمم المتحدة (مجلس الأمن والجمعية العامة) تلزمها
بوقف العدوان، ووقف جرائم الإبادة والقتل الجماعي، والتدمير شبه الشامل.
ولما لم يحدث هذا، وعلى الصورة المطلوبة، أو
أكثر قليلا، فإن الأمة، بنظر البعض استحقت أن تُتهم بالعجز والخذلان والغثائية،
وصولا إلى أبعد فأبعد في مثل هذه النعوت والأوصاف.
على الرغم من الموقف الشعبي الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني العام، الذي اتسّم بأعلى درجات الإيجابية من طوفان الأقصى وتداعياته، من مقاومة وصمود شعبي في قطاع غزة، إلا أن عددا من الكتاب، اتجه إلى نقد موقف الأمة (العربية والإسلامية) في تحركها، سواء أكان لنصرة المقاومة، أم في الضغط لوقف إطلاق النار، أم في التعبير عن الغضب في النزول إلى الشوارع.
هذا الموقف من الأمة، لا يميز بداية بين
مشاعر الأمة ووعيها وموقفها من المقاومة وقيادتها، كما موقفها من الجرائم التي
ترتكب بحقها من جهة، وتحركها ونزولها إلى الشوارع من جهة أخرى. فطمس أو
تجاهل، البُعد الأول، ومن دون تقدير أهميته، لحساب عدم التحرك والنزول للشارع،
يظلم الأمة كما يضر بمعنويات المقاومة والشعب في قطاع غزة. فبدلا من أن يبرز موقف
الالتفاف الشعبي المليوني، الفلسطيني والعربي والإسلامي، في تأييد المقاومة
وقيادتها، تقدم صورة مشوهة لحقيقة وعي الأمة، وشعوبها ومشاعرها وسياساتها
ومواقفها، تحت اتهامها بخذلان غزة، وبالعجز والغثائية.
وبلا مبالغة، يمكن التأكيد أن الملايين من
الشعوب العربية والإسلامية، استقبلت طوفان الأقصى بالدعم والاعتزاز والحب والتأييد
حتى "المبايعة" والولاء.
وبلا مبالغة، إذا قيل إن الأغلبية الساحقة
من الأمة سهرت الليالي أمام شاشات التلفاز، وهي تذرف الدموع، وتكاد لا تنام الليل
أياما، أمام مشاهد الشهداء والجرحى، من الشيوخ والرجال والنساء والأطفال، في
الشوارع أو تحت المساكن المدمرة. فلا يستهترنّ أحد بالحزن والغضب اللذين اجتاحا
قلوب الملايين ووعيها، ولا سيما الشباب وحتى الأطفال، مما حدث ويحدث في قطاع غزة،
سواء أكان اعتزازا بالمقاومة وخطها، أم كان حزنا عميقا على عشرات الآلاف من
الشهداء المروع المدنيين. فضلا عن الدمار والجرحى، ناهيك عما ترسبّ في القلوب، من
غضب على مقترفي الجرائم وداعميهم.
أمام كل هذا، وإن لم يترجم إلى تظاهرات
ومواجهات في الشوراع، يجب أن يقدّر ما عبّرت عنه الجماهير عاليا، وتقرأ آثاره
ليس اليوم فحسب، وإنما أيضا في المستقبل. لذا لا يحق لأحد، مثلا ألا يتوقف
طويلا، وهو يرى ردود أفعال مثات الألوف وأكثر من الأطفال، باتخاذهم من أبي عبيدة
رمزا، بدلا من مسخرات غراندايزر والرجل الطائر (سبايدرمان).
إن كل هذا، يوجب أن يُشعر غزة بأنها ليست
وحدها، وأن الأمة معها، والشعوب تنتظر انتصارها، ثم لا يجوز لأحد أن ينقاد وراء
خيبة أمله، حين لم يرَ الملايين في الشوارع فاعلة، كما يحبها أن تعمل. بل لم تعمل،
كما هي تحب أن تعمل، في ترجمة موقفها إلى شارع هادر فعال.
على أن السؤال هنا: إذا كانت الجماهير على
هذا القدر من الموقف والوعي، فلماذا لم تنزل إلى الشوارع؟
هنا، سيذهب الحوار إلى أن
الجماهير لا تلجأ إلى الشارع، ما لم تشعر بأن نزولها، سيكسر الإرهاب الذي ينتظرها،
ذلك لأن من شروط الحالات التي ثارت فيها الجماهير، وملأت الشوارع بالغضب، وإرادة
التغيير، ترجع إلى إحساس، وإلى تجربة، بأن قوى القمع مزعزعة ويمكن تحدّيها. وإلا فالجماهير تصبر، وهي غير راضية، إلى أن يحين الأوان، كما حدث مثلا عندما ثارت
جماهير الأردن عام 1956، لمنع انضمام الأردن إلى حلف بغداد، أو كما حدث مع جماهير
تونس ومصر في ثورتيّ 2011.
طبعا هذا ليس السبب الوحيد في تفسير لماذا
لم تنزل الجماهير إلى الشوارع تضامنا مع قطاع غزة، ومقاومتها وشعبها. وهو ما يجب
البحث عنه جيدا، أيضا في الأوضاع وموازين القوى في كل بلد. فالجماهير لا تنزل
إلى الشوارع إذا لم تلمس مؤشرات تسمح لها بالانتصار، لا مؤشرات قد تؤدي إلى معارك
جانبية بلا جدوى.
هذا ويجب أن يلاحظ أن ظروف الحرب كما هو
حادث في قطاع غزة، مع وجود مقاومة منتصرة، ومُبشّرة بنصر مؤزر قادم، بإذن الله، لم
يسبق له أن أدّى إلى انتفاضات.
أما من جهة أخرى، حين يقارن بما يحدث على
مستوى عالمي من تظاهرات، ولا سيما، مثلا، في أمريكا وأوروبا، وبعض الدول العالم
ثالثية، فإن أسباب نزول الملايين إلى الشوارع، هناك، تعود إلى مواجهة حكامها،
المشاركين في جريمة المجزرة، والقتل الجماعي من أمريكا وأوروبا. فضلا عن أن
النزول إلى الشوارع له بُعد قانوني، يحمي المتظاهرين حتى لو كانوا بالعشرات أو
المئات.
بكلمة، طرفان ووضعان وميزانا قوى مختلفان في
تفسير الفارق بين الشارعين في الغرب، وفي البلاد العربية والإسلامية. لكنهما
يلتقيان في نصرة غزة وفلسطين.
وبالمناسبة، لعل ما ورد في بيتين رددهما أبو
عبيدة:
يا عابدَ الحَرَمينِ لوْ أبصرْتَنا لَعلمْتَ أنّك في العبادةِ تَلْعبُ
مَنْ كان يَخْضِبُ خدَّهُ بدموعِهِ فَنُحُورُنا بِدِمَائِنا تَتَخَضَّبُ
توجه بهما إلى بعض العلماء وبعض النخب بما
يحملانه من مسؤولية، ومن ثم من الخطأ الفادح، اتهام الأمة بالغثائية والعجز أو
الخذلان.
ولكن قبل مغادرة هذه النقطة، أوَ ليست
المقاومة وقيادتها والشعب في قطاع غزة من الأمة. وكذلك من فتحوا جبهات قتال لحمل
كتف مع غزة، كما من يمكن أن يُعدّوا من نخب وقوى وأحزاب ودول قليلة وقفوا، ويقفون،
مناصرين. فالأمة تضم الكثيرين. أما الغثائية والعجز والخذلان، فشأن قلة. ولو كانت
متنفذة وحسابها عسير.
لهذا، فالتعميم ظالم للحقيقة، والإطلاقية
مخلة غير منصفة. فحذار من التعميم والإطلاقية لافتقارهما للسياسة الصحيحة،
وللقراءة الدقيقة لموقف الشعوب والأمة، ولا سيما في التعبئة للحرب. هذا والحذار من
القول "هلك الناس".