لقد
أدت المناقشات والمفاوضات الجارية بشأن الوجود العسكري الأمريكي في
العراق، إلى
تسليط الضوء مرة أخرى على العلاقة المعقدة والمثيرة للجدل بين العراق والولايات
المتحدة. يسعى هذا المقال إلى تحليل الأبعاد المتعددة الأوجه لهذه العلاقة، مع
التركيز على الآثار الاستراتيجية والقانونية والاقتصادية للوجود العسكري الأمريكي
المستمر في العراق.
وجود
تحت مسميات أخرى
وصلت
الحوارات الأخيرة بين العراق والولايات المتحدة إلى لحظة محورية، مما يمثل تحولا
كبيرا في مشهد العراق في مرحلة ما بعد
داعش. مع اقتراب المهمة ضد داعش من نهايتها،
فإن مبرر الوجود المستمر للقوات العسكرية الأمريكية في العراق يفقد أساسه المنطقي.
وعلى الرغم من تصريحاتها السابقة الداعية لخروج القوات الأمريكية من العراق، إلا
أن الأخبار الحالية تشير إلى أن الحكومة العراقية لا ترغب في مغادرة القوات
الأمريكية بشكل كامل. وقال أحد أعضاء فريق التفاوض الأمريكي؛ إنه خلال جولة
المفاوضات التي جرت في آب/ أغسطس 2023، أكد الجانب الأمريكي أيضا ضرورة وجود
قواته العسكرية في القواعد العراقية؛ بحجة الدعم والتدريب والمساعدة الاستخباراتية.
وتخطط وزارة الدفاع الأمريكية للإبقاء على ألفين من قواتها العسكرية في العراق، على
شكل اتفاقيات ثنائية بعد استكمال مهمة التحالف ضد تنظيم داعش، وهذا يشير إلى مساعي
أمريكية لحفظ هذا الوجود تحت مسميات وذرائع أخرى.
يقول المنتقدون؛ إن هذا الوجود العسكري الأجنبي المستمر يقوض سيادة العراق، ويعوق طريقه إلى الحكم الذاتي الكامل والاستقرار. فهو يثير تساؤلات حول نوايا الولايات المتحدة على المدى الطويل في العراق والشرق الأوسط الكبير، مما يساهم في التوترات في منطقة مضطربة بالفعل.
إن
إعادة معايرة الوجود العسكري الأمريكي في العراق لا تخلو من الانتقادات، سواء داخل
العراق أو على المستوى الدولي، ويقول المنتقدون؛ إن هذا الوجود العسكري الأجنبي
المستمر يقوض سيادة العراق، ويعوق طريقه إلى الحكم الذاتي الكامل والاستقرار. فهو
يثير تساؤلات حول نوايا الولايات المتحدة على المدى الطويل في العراق والشرق
الأوسط الكبير، مما يساهم في التوترات في منطقة مضطربة بالفعل.
إن
رفض الولايات المتحدة الثابت لسحب قواتها من العراق، ترجع جذوره بشكل أساسي إلى
الخوف من الخسارة الاستراتيجية، مما يشير إلى انسحاب أوسع من الشرق الأوسط، حيث
تنظر الولايات المتحدة إلى مثل هذا الانسحاب على أنه ليس مجرد تراجع تكتيكي، بل هو
تآكل وتراجع كبير في النفوذ في منطقة تعتبر حاسمة لمصالحها ومصالح إسرائيل الجيوسياسية
والاستراتيجية، خصوصا أن ما تسمى "المقاومة الإسلامية العراقية" مصرة
على استهداف القوات الأمريكية في العراق، واستهداف المصالح الإسرائيلية لحين وقف
الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني. هذه الاستهدافات التي اتخذت منحى أكثر جدية
بعد الهجوم بطائرات دون طيار على محطة الطاقة في مطار حيفا.
فقدان
الذرائع القانونية وظلال التدخلات الماضية
إن
النسيج المعقد للمبررات القانونية للتدخلات العسكرية يتشابك بشكل عميق مع نسيج
العلاقات الدولية، وخاصة في سياق عمليات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على
مستوى العالم. إن هذا التاريخ، الذي شابته تدخلات مثيرة للجدل، وغالبا ما تكون
أحادية الجانب بقيادة الولايات المتحدة، يشكل عدسة حاسمة يجب من خلالها فحص الظروف
الحالية في العراق ومقارنتها في سياق تاريخي.
ويجب
هنا أن نذكّر بحرب العراق عام 2003، التي شُنت على افتراضات كاذبة كامتلاك العراق
لأسلحة دمار شامل وارتباطات لا أساس لها بتنظيم القاعدة، التي تقف بممزلة تذكير
صارخ بالمخاطر المرتبطة بمثل هذه المبررات الواهية. إن الاعترافات اللاحقة بالخطأ
من جانب شخصيات مثل وزير الدفاع الأمريكي السابق كولن باول، إلى جانب الاعتراف
بالأخطاء الاستخباراتية، تسلط الضوء على العواقب الوخيمة المترتبة على استناد
التدخلات إلى أسس قانونية وواقعية هشة.
وقد
أدت هذه المغامرات التاريخية إلى معاناة إنسانية عميقة ترافقت بمقتل أكثر من
مليوني عراقي، وانقسامات مجتمعية، وعدم استقرار دائم، مما ألقى بظلال كبيرة على
الخطاب المستمر بشأن شرعية البصمة العسكرية الأمريكية المستمرة في العراق.
وفي
السيناريو الحالي، تفتقر حجة الإبقاء على القوات الأمريكية في العراق إلى أساس
قانوني واضح. إن المبررات الأصلية المرتبطة بمحاربة داعش وتحقيق الاستقرار في
المنطقة، أصبحت موضع تشكيك متزايد مع تراجع التهديد المباشر الذي يشكله داعش. ويثير
هذا التحول تساؤلات جوهرية حول الأسس القانونية لاستمرار تمركز القوات الأمريكية
على الأراضي العراقية، ودون سبب قانوني مبرر، يستند إما إلى طلب الحكومة العراقية
بموافقة برلمانية صريحة أو بتفويض من الأمم المتحدة، يبدو أن استمرار الوجود
العسكري الأمريكي، يتعارض مع مبادئ السيادة وتقرير المصير التي تشكل حجر الأساس في
الدستور العراقي.
اقتصاد
تحت المراقبة
يعد
التفاعل الاقتصادي بين الولايات المتحدة والعراق بمنزلة وجه حاسم لعلاقتهما متعددة
الأوجه، ويكشف عن العلاقات العميقة بين الممارسات الاقتصادية والأهداف
الاستراتيجية. إن نفوذ الولايات المتحدة على عائدات النفط العراقي، التي تشكل
عنصرا حاسما في اقتصاد البلاد، يسلط الضوء على ديناميكية السيطرة التي تمتد إلى ما
هو أبعد من مجرد الإشراف المالي. وتتجلى هذه السيطرة ليس فقط في الإشراف المباشر
على الأموال العراقية من قبل وزارة الخزانة الأمريكية، ولكن أيضا من خلال السياسات
والممارسات الاقتصادية الأوسع التي فرضت على العراق في فترة ما بعد الصراع. وتمثل
هذه الرقابة أكثر من مجرد الإدارة المالية؛ فهي ترمز إلى مستوى عميق من التبعية
الاقتصادية وتعرّض العراق لنقاط ضعف يتردد صداها في جميع أنحاء اقتصاده.
لقد
كان لتعامل القوى الخارجية مع عائدات النفط العراقي آثار بعيدة المدى على المشهد
الاقتصادي العراقي، وقد خنق قدرة البلاد على تسخير مواردها الطبيعية بشكل كامل
لتحقيق التنمية الوطنية والتنويع الاقتصادي. إن تداعيات هذا الوضع متعددة الأوجه،
بما في ذلك تقلص الاستقلال المالي، ومحدودية النمو الاقتصادي، وانخفاض الاستثمار
في القطاعات الحيوية خارج صناعة النفط، أدى إلى اعتماد العراق بشكل كلي على النفط،
مما جعل اقتصاد البلاد عرضة بشدة لتقلبات أسعار النفط العالمية، الأمر الذي يمكن
أن يؤدي إلى عدم الاستقرار الاقتصادي، وإعاقة التخطيط والتنمية على المدى الطويل.
الحجج ضد الوجود الاقتصادي والعسكري الأمريكي في العراق مقنعة، وهي تؤكد الحاجة إلى التحول نحو السياسات التي تعطي الأولوية للتمكين السيادي العراقي، سواء في السياسة الخارجية والاقتصاد المحلي والإقليمي والدولي.
علاوة
على ذلك، أدى فرض السيطرة على الشؤون الاقتصادية للعراق إلى إثارة ردود فعل عكسية
كبيرة داخل البلاد، مما أدى إلى تغذية الدعوات المطالبة بسيادة اقتصادية أكبر
والتحول بعيدا عن الاعتماد على الدولار. ويعكس هذا الشعور طموحا أوسع بين
العراقيين نحو اقتصاد متنوع غير مرتبط بالمصالح الاستراتيجية لأي قوة أجنبية. إن
السعي إلى التنويع الاقتصادي أمر بالغ الأهمية لاستقرار العراق وازدهاره على المدى
الطويل، مما يوفر طريقا نحو اقتصاد أكثر مرونة وقادر على تحمل الصدمات الخارجية، وتقليل التعرض للضغوط الاقتصادية الدولية.
وعليه،
فإن الآثار الاقتصادية السلبية للوجود الأمريكي في العراق، تمتد إلى ما هو أبعد من
إدارة عائدات النفط. وقد أدت آثار التدخلات العسكرية والمخاوف الأمنية المستمرة
إلى ردع الاستثمار الأجنبي، وتعطيل الأسواق المحلية، وعرقلة تطوير البنية التحتية
الحيوية. ويؤدي عدم الاستقرار الاقتصادي الناتج عن ذلك إلى تفاقم القضايا
الاجتماعية، بما في ذلك تزايد مستمر في مستويات البطالة والفقر.
وفي
ضوء هذه التحديات، فإن الحجج ضد الوجود الاقتصادي والعسكري الأمريكي في العراق
مقنعة، وهي تؤكد الحاجة إلى التحول نحو السياسات التي تعطي الأولوية للتمكين
السيادي العراقي، سواء في السياسة الخارجية والاقتصاد المحلي والإقليمي والدولي. ويبدو
بأن جميع ما تقدم تتم عرقلته عبر الوجود الأمريكي غير الشرعي في العراق.