حادث إشعال الجندي الأمريكي النار في جسده، أمام السفارة الإسرائيلية في
أمريكا، حدث اهتزت له دوائر عدة، فقد أقدم على هذا الفعل احتجاجا على ما يفعل ليل
نهار بأهل
غزة، في ظل صمت وتواطؤ من بلده الأمريكي، ومن عاونهم من الغرب والعرب،
وإقدام الرجل على هذا الفعل، الذي أتى خارج كل الحسابات، فليس الرجل من المجنسين
بالجنسية الأمريكية، بل أمريكي الأصل، ولون البشرة الدال على أهل البلد، دلالة
واضحة على أن ما يجري في غزة لا تقف نيرانه عند حدودها، بل يتطاير شررها ليصل إلى
قلب العواصم الغربية.
ومن يتابع الحدث وما تم بعده، يدرك أبعادا
مهمة حوله، فالخوف من آثار الفعل، ومن تأثيره، جعل المنصات الاجتماعية، تضيق في
النشر عن الحادث، ما يعكس مدى تخوف هذه الدول من مثل هذا الحادث، وكذلك مكانه، فقد
كان أمام السفارة الإسرائيلية في أمريكا، ولا يدري أحد ما يمكن أن يحمله قادم
الأيام من توابع هذا الحدث.
مات الرجل بعد أن أضرم النار في جسده، وتم
نقله للمستشفى، لكن روحه فاضت لبارئها، وبدأ إضرام لنار أخرى في ساحاتنا العربية
والإسلامية، وهو الحديث والجدل حول الرجل دينيا، من حيث انتحاره، ومصيره، ومدى
الثناء أو الدعاء للرجل، وهو موقف ابتعد كثيرا عن السياق الصحيح للموضوع.
البعض ينحرف ببوصلته عن التأمل الصحيح في
المواقف، فيخرج بها بعيدا عن مسارها، ولو أنه عاد لعموميات النصوص الشرعية، سيجد
القرآن والسنة، يشيد بمواقف أشخاص، أو كلمات، أو مبادئ تبنوها، تقديرا لما قدموا
من نفع، فليس هناك من النصوص ما يمنع من الثناء على أشخاص يخدمون البشرية أو
قضاياها أيا كانت ديانتهم.
فمن يتأمل مواقف النبي صلى الله عليه وسلم
في تعامله مع غير المسلمين، من أصحاب المبادئ والضمائر الحية، سيجد موقفا يغيب
للأسف عن أذهان البعض، فإنه صلى الله عليه وسلم يبين بداية أنه لم يأت للحياة
بمنظومة أخلاقية وقيمية من الصفر، بل جاء ليكمل على ما بدأه من سبقوه، سواء كان
هؤلاء من أصحاب الرسالات، أو أصحاب الخلق الإنساني القويم، فقال صلى الله عليه
وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ولم يقل بعثت لأنشئ من الصفر،
بل هناك بناء شاهق في التاريخ البشري والديني، فقد جاء ليكمل على ما وضع فيه من
لبنات المبادئ والأخلاق.
وكان من أعظم المواقف التي نرصدها في مواطن
عدة: تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لخصومه، أو من لم يؤمنوا برسالته، لكنهم
كانوا أصحاب فضل، أو تركوا أثرا صالحا، أو كان لهم فضل عليه أو على البشرية، ففي
أعقاب غزوة بدر، كان هناك أسرى للمشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان
المطعم بن عدي حيا، وكلمني في هؤلاء النتنى لأعطيتهم له"، أي: لو طلب منه
المطعم بن عدي العفو عن هؤلاء الأسرى، دون فداء مالي، أو عقاب، لأعطاهم له، والسبب
في ذلك: موقف للمطعم، حين عاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، ولم يكن يستطيع
دخول مكة، إلا أن يكون في جوار أحد، وهو ما يعرف بلغتنا الآن: طلب اللجوء السياسي.
ومواقف كثيرة أخرى لا يتسع المقام لذكرها، تسير في نفس السياق.
إن شخصا بلغت به شجاعته، أن يقف هذا الموقف أمام السفارة الإسرائيلة مضرما النار في نفسه، رافضا لما يجري على أرض غزة، لا تنقصه هذه الشجاعة في اعتناق دين لو وصل إليه وصولا صحيحا، أو وجد من يعرضه عليه عرضا مشوقا، أو واضحا لا لبس فيه ولا غموض.
البعض عندما يرى شخصا مات، ولا يعرف عنه أنه
مسلم، يبادر بالوصف له بالكفر، وأنه مات عليه، وأن مصيره النار لا محالة، مهما كان
موقفه من قضايانا، وهو كلام يحتاج لوقفة، وكنت قد تناولت هذا الموضوع بعدة مقالات
على الموقع هنا، ولا حاجة لإعادة ما قلناه هناك، ولكني أنقل نصا مهما للعلامة
الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر السابق، بعد أن بين أركان الإيمان بالله بالنسبة
لغير المسلم، ومتى نعده كافرا، فقال:
(أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقف على أن
يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشيء منها بعد أن بلغته على وجهها الصحيح، واقتنع بها
فيما بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يعتنقها ويشهد بها عنادا واستكبارا، أو طمعا في
مال زائل، أو جاه زائف، أو خوفا من لوم فاسد؛ فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته
بصورة منفرة، أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر ولكن لم
يوفق إليها، وظل ينظر ويفكر طالبا للحق، حتى أدركه الموت أثناء نظره فإنه لا يكون
كافرا يستحق الخلود في النار عند الله.
ومن هنا كانت الشعوب النائية التي لم تصل
إليها عقيدة الإسلام، أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة، أو لم يفقهوا حجتها مع
اجتهادهم في بحثها، بمنجاة من العذاب الأخروي للكافرين، ولا يطلق عليهم اسم الكفر.
والشرك الذي جاء به القرآن أن الله لا
يغفره، هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار، الذي قال الله في أصحابه: (وجحدوا
بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) النمل: 14).
وإن شخصا بلغت به شجاعته، أن يقف هذا الموقف
أمام السفارة الإسرائيلة مضرما النار في نفسه، رافضا لما يجري على أرض غزة، لا
تنقصه هذه الشجاعة في اعتناق دين لو وصل إليه وصولا صحيحا، أو وجد من يعرضه عليه
عرضا مشوقا، أو واضحا لا لبس فيه ولا غموض.
إن الرجل لم يصله عن ديننا شيء، وما وصله
عنا من مظالم ومجازر يقوم بها الكيان الصهيوني، بمعاونة أهل بلده من ساسة وإعلام،
جعله يتعاطف معنا، ببذل أعز ما يملك، وهي نفسه، فما وصله عنا تعاطف معنا فيه. وبدل
أن نحاسب أنفسنا، إذ كيف قصرنا في الوصول لمثل هؤلاء برسالتنا الإسلامية السامية،
نهرب من تحمل المسؤولية، فنناقش إسلام أو كفر الشخص، ثم نزداد في الهروب لنناقش هل
في الجنة أم لا، وهكذا سلسلة كل فقرة تسلم للأخرى، وكلما انتقلنا من فقرة أوصلتنا
لأختها، إلى طريق مسدود في النقاش، لأنه ابتعد من البداية عن التناول السديد.
وينسى البعض في غمرة النقاش، أن هناك فرقا
بين الأحكام العامة في الشريعة، وبين تنزيل هذه الأحكام على أشخاص بأعينهم، فمن
السهل جدا أن تستشهد في نقاش عام، بقواعد وأحكام مجردة، لكن عند تنزيلها على حالات
معينة، يختلف النقاش، ويختلف القول، لأنك تتحدث عن حالة بعينها، وهو ما يقع فيه
الكثيرون في النقاش متذرعا بأنه يتمسك بالشرع، ولا يتفلت منه، وهي رغبة محمودة، لو
احتمت بالشرع كله، ولم تخلط بين العموم والتعيين.
لا أدري لماذا كلما حدث حادث جلل كهذا، تختل
في تناوله الموازين، وتضطرب الأفهام، رغم وجود مساحة ليست بالقليلة يمكن أن يتم
التعامل بها مع مثل هذه المواقف، دون الخروج عن موضوعها الرئيسي، وهو: وجود أصحاب
ضمائر حية من ديانات غير الإسلام، تقف موقفا مشرفا من قضايانا الكبرى، وفي القلب
منها قضية فلسطين، وما يجري لأهل غزة من مجازر، وبدل أن نقيم لمثل هذا الشخص
تكريما يليق به، في زمن عز فيه من يقف موقفا لا يحسب عواقبه، يقيم البعض محاكمة
جائرة للأسف.
Essamt74@hotmail.com