يتعرض رئيس الجمهورية التركي رجب طيب
أردوغان لانتقادات بعض الإسلاميين؛
منذ أن تقدمت أنقرة بخطوات ملموسة لترميم علاقاتها مع القاهرة وأبو ظبي والرياض.
ويعتبر هؤلاء تلك الخطوات تراجعا عن مواقف
تركيا المشرفة من ثورات الربيع العربي،
ووقوفها إلى جانب الشعوب المطالبة بالحرية والكرامة والمشاركة في حكم بلادها من
خلال اختيار ممثليها عبر صناديق الاقتراع. وجاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة
ليزيد من حدة الانتقادات لتصل إلى اتهام الرئيس التركي بالخذلان.
الانتقادات الموجهة إلى أردوغان هذه الأيام أعادت إلى الأذهان ما تعرض له الرجل حين انشق عن الخط السياسي الذي أسسه
رئيس الوزراء التركي الأسبق، نجم الدين أربكان، ليؤسس حزب العدالة والتنمية قبل
أكثر من عقدين. وكان أردوغان ورفاقه أدركوا آنذاك أنه لا جدوى من محاولات التقدم
في طريق مسدود، لأنهم في النهاية سيصطدمون دائما بذات الجدار، في إشارة إلى حظر
الأحزاب التي تنتمي إلى ذاك التيار، من قبل المحكمة الدستورية واحدا تلو الآخر.
الرئيس التركي يطبق هذه الواقعية في السياسة الخارجية أيضا، ويحاول أن يوازن بين السعي إلى تحقيق طموحاته ومراعاة الظروف، ويتحاشى تقديم خطوات غير محسوبة قد تؤدي إلى جر البلاد إلى قلب الأزمات والمستنقعات، وتعرض أمنها واستقرارها للمخاطر والفوضى والاضطرابات. وقد يعبر عن طموحاته بشعارات رنانة وكلمات براقة وتصريحات مليئة بالحماس والاعتزاز، إلا أن تطبيقاته على أرض الواقع تتسم إلى حد كبير بالعقلانية والواقعية والحذر الشديد
كان هناك كتاب ومفكرون في تركيا والعالمين العربي والإسلامي، انتقدوا
انشقاق أردوغان ورفاقه عن تيار أربكان، واعتبروه "شقا للصفوف" أو
"انحرافا عن الخط الإسلامي". وكانت بعض تلك الانتقادات شديدة اللهجة،
إلا أن النجاحات التي حققها حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان منذ تأسيسه، أثبتت
أن قرار الانشقاق كان صائبا، وأن المنتقدين هم المخطئون.
أردوغان لديه طموحات كبيرة، مثل رفع تركيا إلى مستوى الدول العظمى في كافة
المجالات، كما يستمع إلى آراء المواطنين ومطالبهم ليسعى إلى تحقيقها، إلا أنه في
ذات الوقت يراعي الواقعية السياسية وظروف البلاد والمنطقة والعالم كيلا يدخل طريقا
مسدودا لا ينتظره غير الاصطدام بالجدار.
الشعب التركي كان يعاني من ممارسات قمعية تقوم بها أقلية متسلطة تتخذ
العلمانية المتوحشة سلاحا ضد المتدينين، وكان حظر ارتداء الحجاب في الجامعات
والمدارس أبرز مثال لتلك الممارسات، لكن لم يكن أول ما قام به حزب العدالة
والتنمية حين فاز في الانتخابات بأغلبية ساحقة وشكّل الحكومة؛ هو حل هذه المشكلة،
لأن الظروف آنذاك لم تكن مهيأة، بل تم رفع الحظر بعد سنوات من تولي الحزب حكم
البلاد.
الرئيس التركي يطبق هذه الواقعية في
السياسة الخارجية أيضا، ويحاول أن
يوازن بين السعي إلى تحقيق طموحاته ومراعاة الظروف، ويتحاشى تقديم خطوات غير
محسوبة قد تؤدي إلى جر البلاد إلى قلب الأزمات والمستنقعات، وتعرض أمنها
واستقرارها للمخاطر والفوضى والاضطرابات. وقد يعبر عن طموحاته بشعارات رنانة
وكلمات براقة وتصريحات مليئة بالحماس والاعتزاز، إلا أن تطبيقاته على أرض الواقع تتسم
إلى حد كبير بالعقلانية والواقعية والحذر الشديد من الوقوع في فخ والانزلاق نحو ما
لا يحمد عقباه.
أردوغان لديه خبرة سياسية كافية لمعرفة أن أي مغامرة مع تجاهل الظروف ونقاط
القوة والضعف لا تأتي بالنتائج المرجوة، بل قد تتسبب في ضياع الجهود والمكتسبات.
كما أن تلك الخبرة تدفعه إلى التراجع، إذا أدرك أنه أخطأ أو رأى أن الظروف قد
تغيرت، ولا يتردد في الخروج من الطريق الذي دخله حين تأكد أنه مسدود، ليبحث عن
بديل.
أردوغان لديه خبرة سياسية كافية لمعرفة أن أي مغامرة مع تجاهل الظروف ونقاط القوة والضعف لا تأتي بالنتائج المرجوة، بل قد تتسبب في ضياع الجهود والمكتسبات. كما أن تلك الخبرة تدفعه إلى التراجع، إذا أدرك أنه أخطأ أو رأى أن الظروف قد تغيرت، ولا يتردد في الخروج من الطريق الذي دخله حين تأكد أنه مسدود، ليبحث عن بديل
الزعيم الألماني الشهير، أوتو فون بسمارك، قال في القرن التاسع عشر إن
"السياسة فن الممكن"، إلا أن دور السياسي هو السعي إلى أن يجعل الحلول
والخيارات داخل دائرة الإمكان، دون أن يكتفي بما هو موجود في تلك الدائرة. ومن
المؤكد أن هذا السعي يحتاج إلى جهود حثيثة ومدة من الزمن وتغيير الخيارات وفق الظروف
المتغيرة. وهذه القاعدة هي التي يطبقها الرئيس التركي لتحقيق مصالح بلاده.
فما لم يكن بالأمس ممكنا أصبح اليوم ممكنا قابلا للتحقق، بفضل هذه السياسة،
ولم يعد ارتداء الحجاب محظورا، لا في الجامعات والمدارس فحسب، بل حتى في الدوائر
الرسمية وقوات الأمن والجيش. وهناك أشياء كثيرة أصبحت اليوم في دائرة الإمكان، رغم
أنها كانت من المستحيلات قبل حوالي عقدين. كما أن هناك أشياء أخرى ما زالت خارج
تلك الدائرة.
أردوغان فاز في
الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الجولة الثانية بفارق قليل، كما أن بلاده المحاطة
بالصراعات الساخنة والحروب ليست قوة نووية، ولا من أعضاء مجلس الأمن الخمسة الذين يملكون
حق الفيتو، وهي أيضا تواجه مشاكل عديدة وتحديات داخلية وإقليمية. وكل ذلك يفرض على
الرئيس التركي أن يراعي التوازنات لحماية أمن بلاده واستقلالية قرارها وأن يكون
شديد الحذر في قراراته كي لا يمنح للمتربصين فرصة لإجهاض صعود بلاده.
وبالتالي، تجب
قراءة ترميم تركيا علاقاتها مع مصر والإمارات والسعودية،
وزيارة أردوغان لتلك الدول، وزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي
المرتقبة لأنقرة، بالإضافة إلى الجهود
الدبلوماسية التي تبذلها أنقرة لإنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في
إطار الواقعية السياسية التي يتبناها الرئيس التركي.
twitter.com/ismail_yasa