مصطلح الفتنة واحد من أخطر المصطلحات التي
تجرّ خلفها مشروعا سياسيا متكاملا هو الحصن الأمتن لنظام الاستبداد العربي خاصة في
شكله الملكي الوراثي في الخليج. فقد خرجت علينا منذ الأسابيع الأولى للحرب في
غزة
مجموعة من السرديات المرتبطة بأنظمة الخليج ومصر من المرجعيات الدينية لتتهم
المقاومة والخطاب الداعم لها بأنها مشاريع للفتنة لا تهدف إلا إلى تدمير الحواضر
الآمنة وتأليب الناس بعضها ضد بعض وإحداث الهرج والفوضى.
ليس هذا الخطاب خطابا جديدا فقد عرف أوج
انتشاره في قلب الأحداث التي واكبت ثورات الربيع الأخيرة، حيث خرجت مراجع دينية
كثيرة تابعة للأنظمة التي موّلت مشاريع الثورات المضادة لتتهم الثورات وتصنفها في
خانة الفتن لا في خانة الثورات.
يتراوح المصطلح بين المرجعية الدينية
العقائدية والسياسية الاجتماعية بل صار في السنوات الأخيرة أقرب إلى الاستعمال
السياسي لوصف الحركات الاجتماعية المناوئة للنظام. كما شمل كل خطاب فردي أو جماعي
يدعو إلى التغيير أو ينتقد الفساد القائم في البلدان العربية خاصة منه المرتبط
بالسلطة الحاكمة فضلا عن كل خطاب يطعن في شرعية النظام القائم.
الفتنة والثورة
يمثل المصطلحان تسميتين مختلفتين حدّ
التناقض بين فعل فوضوي مصطنع يتسم بالتناحر والاقتتال والحرب الطويلة بين مكونات
الجسد الواحد وهو الموسوم بالفتنة وبين قانون من قوانين التغيير الاجتماعي الطبيعي
التي تهدف أساسا إلى منع تمزق الجسد الواحد بفعل الاستبداد والجور والظلم وهو
المقصود بالثورة.
الفتنة أقرب إلى المشروع التآمري الذي تديره
أطراف بعينها تعمل على تغذية صراع لا مبرر موضوعيّ له بين مجموعة سياسية واجتماعية
واحدة بهدف تفكيكها وتدميرها من الداخل. تكون الفتنة غالبا مقصودة لذاتها ولما
يترتب عنها من آثار مدمّرة لأنها في الحقيقة فعل يفتقر لشروط وجوده الطبيعية وتكون
غالبا مرفوقة بفعل مسلح ينتهي بالحرب الأهلية.
ليست الفتنة وخطاب الفتنة في الحقيقة إلا آخر أوراق التوت التي يحاول عبرها النظام الرسمي العربي خاصة في الخليج إخفاء سعيه إلى شيطنة الثورات وشيطنة فعل المقاومة الشعبية و" تكفيره". يهدف هذا الخطاب إلى الاستثمار في الخلفية الدينية لدى القسم الأكبر من شعوب العرب والمسلمين عبر إظهار الفعل الاجتماعي الاحتجاجي أو المقاوم بمظهر المارق عن الدين عبر إحياء الذاكرة الإسلامية وحدث "الفتنة الكبرى".
الثورة على خلاف ذلك فعل طبيعي غير صناعي
لأنه يتأسس على شروط موضوعية أدت إلى الانفجار بسبب الاحتقان السياسي والاجتماعي
الذي توفرت له البيئة المناسبة. الثورة فعل تصحيحي يحدث حين يبلغ طورٌ سياسيّ ما
منتهاه ويستنفذ شروط وجوده مؤكدا عدم قدرته على منع سقوطه. ثورات الربيع العربي
كانت منذ منطلقها في تونس سنة 2010 حركة اجتماعية تلقائية تصحيحية في بدايتها
فجّرت وضعا محتقنا بلغ فيه الفساد والاستبداد مراتب متقدمة فبرهنت عن عجز السلطة
الحاكمة على الاستمرار.
لم يكن أمام أذرع الدولة العميقة وقوى
الثورة المضادة من سبيل إلى تعطيل المسار الثوري إلا عبر التشكيك في قدراته عبر
اتهام الفعل الثوري بأنه فعل فِتنوِيّ لا يهدف إلى الإصلاح والتغيير وإنقاذ الجسد
من التحلل بقدر ما يهدف إلى إحلال الفوضى والاحتراب الداخلي بين مكونات الجسد
الواحد.
الفتنة والانقلاب
لكنّ الانقلابات التي اصطدمت بها المسارات
الثورية في مصر خاصة وليبيا زُيّنت للشعوب على أساس أنها ثورات حقيقية ولم تصفها
أبواق الاستبداد بأنها فتن بل حرصت على تسميتها ثورات مثل انقلاب يوليو 2013 في
مصر وعملية الكرامة في ليبيا التي قادها المشير حفتر في يوليو 2014.
لم تصنّف هذه الانقلابات رغم طابعها العسكري
الدامي على أنها فتن وانقلابات لأن أصحابها هم من تكفلوا بشيطنة الثورات باعتبارها
"خروجا عن وليّ الأمر". أي أنّ مصدر التصنيف هو نفسه قبل الانقلابات
وبعدها.
إن الطابع التآمريّ المسلح للانقلابات
العسكرية في تاريخ المنطقة يؤكد أنها كانت كلها تقريبا منذ الخمسينات عملا
فِتنويّا تخريبيا يهدف إلى تقسيم الجسد الواحد كما حدث في انقلابات العسكر في مصر
1952 والعراق وسوريا وليبيا ضد المؤسسات الملكية الشرعية.
أليس التظاهر ضد الرئيس الشرعي المنتخب محمد
مرسي وتجييش الإعلام والشارع ضده بالأكاذيب والادعاءات التي ظهر زيفها فيما بعد
فتنة ؟ أليس الخروج عنه وهو وليّ أمر منتخب باختيار أغلبية شعب مصر فتنة ؟ أ لم يكن الخروج عن الملك فاروق والملك
فيصل والملك السنوسي خروجا عن وليّ الأمر بمنطق المداخلة وعلماء السلطان الذي
وصفوا الثورات بالفتنة ووصفوا الانقلابات بالثورة والحركة التصحيحية ؟ أ لم يدعوا
المداخلة في ليبيا وشيخ الأزهر في مصر صراحة إلى الخروج على السلطة المنتخبة بعد
الثورات ؟
الفتنة والمقاومة
أمّا قاصمة الظهر لهذا "الخطاب
التكفيري" الذي يصف إرادة الشعوب وحقها في التغيير بالفتنة فقد صدرت مؤخرا
عن مرجعيات وهيئات وشخصيات دينية رسمية تتبع مؤسسات الحكم العربية التي رأت في
حركة المقاومة
الفلسطينية في غزة "فتنة عمياء لا طائل من ورائها غير الخراب
والدمار".
جاء هذا الخطاب ردا على موجة التعاطف
العربية والعالمية مع الصمود الأسطوري لشعب غزة في مواجهة آلة الموت الصهيونية
الأطلسية والتي قتلت إلى حدود كتابة هذه الأسطر ما يفوق واحدا وعشرين ألفا من
الأطفال والنساء والرجال والشيوخ في قطاع غزة المحاصر.
كيف تكون مقاومة المحتل الغازي الذي يقتل
الأطفال والنساء ويحتل الأرض ويدنس المقدسات فتنة؟ أليست مقاومة الغزاة واجبا
شرعيا تضمنه كل القوانين الوضعية فضلا عن الشرائع السماوية ؟ أليست المقاومة جهادا
في سبيل الله الذي هو جوهر العقيدة فرضه الله على كل مسلم اغتصبت أرضه وقتل أهله؟
كيف تتحوّل المرجعية الدينية من سند للمقاومة والصمود إلى مكفّر لهما؟
ليست الفتنة وخطاب الفتنة في الحقيقة إلا
آخر أوراق التوت التي يحاول عبرها النظام الرسمي العربي خاصة في الخليج إخفاء سعيه
إلى شيطنة الثورات وشيطنة فعل المقاومة الشعبية و" تكفيره". يهدف هذا
الخطاب إلى الاستثمار في الخلفية الدينية لدى القسم الأكبر من شعوب العرب
والمسلمين عبر إظهار الفعل الاجتماعي الاحتجاجي أو المقاوم بمظهر المارق عن الدين
عبر إحياء الذاكرة الإسلامية وحدث "الفتنة الكبرى".
الفتنة هي آخر سلاح الاستبداد العربي
المتغطي بالمرجعية الدينية وبوهم الأمن والأمان والاستقرار المزيف لنزع الشرعية
العقائدية عن كل حركة أو فعل شعبي يمكن أن يقوض سلطته أو يهدد سلطانه على الدولة
والمجتمع.