يبدو الموقف الرسمي العربي المتواطئ مع
حرب الإبادة الأطلسية في
غزة متناغما مع طبيعة هذه الأنظمة التي تعتبر دون أدنى
مبالغة أنظمة وكالة وحراسة مكلفة بإخضاع الشعوب وإبقائها سجينة القمع. وليست
تصريحات أكثر من مسؤول غربي وصهيوني عن إلحاح قادة بعض الأنظمة العربية في طلب سحق
المقاومة
الفلسطينية وإخراج غزة من كل معادلات الصراع مع
الاحتلال وعرّابيه في
الغرب إلا دليلا إضافيا على الدور المحوري الذي تلعبه هذه الكيانات الوظيفية في
مأساة شعب فلسطين.
في الحقيقة لا يحارب أهلُ فلسطين جيش
الكيان المحتل المدجج بآخر أدوات الموت والتجسس والإبادة وهم لا يحاربون مجاميع
الجيوش الصليبية بقيادة الولايات المتحدة فقط. إنهم يقاتلون أولا وقبل كل شيء
أنماطا أخطر من الجيوش ومن المليشيات الظاهرة والخفية ممثلة في النظام العربي ودول
الطوق التي تحكم قبضتها عليهم وتمنع عنهم الماء والدواء والسلاح.
وفاء النظام العربي
النظام العربي ممثلا في جامعة الدول
نظام وفيّ للقيم والوظائف والشروط التي أنشئ من أجلها بعد الحرب العالمية الثانية
والمتمثلة في السيطرة على المجتمع وإخضاعه ومحاربة كل أشكال التحرر داخله. كان هذا
الشرط هو أساس العقد المبرم بين كل حكومة عربية من جهة وبين أقطاب النظام العالمي
الجديد سواء كانت الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا وبريطانيا داخل مستعمراتها
القديمة.
لن يكون ما بعد غزة كما كان قبلها مهما حاولت أنظمة الحكم مسح الحدث من الذاكرة الشعبية بل إنه سيخلق موجات ارتدادية سيكون لها أثر خطير على الأنظمة الحاكمة في الإقليم وعلى كيان الاحتلال الذي بدأ يترنّح منتظرا ساعة الحسم الأخيرة.
لم يكن إعلان استقلال الدول العربية
وظهور الدولة الوطنية إلا مسرحية سيئة الإخراج سرعان ما انكشف زيفها من خلال
التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية المطلقة لهذه الكيانات الهجينة. نجحت
السلطة العربية بعد ذلك في نحت أبشع الأنظمة الاستبدادية بثلاث واجهات رئيسية:
الواجهة الملكية الوراثية والواجهة الجمهورية العسكرية والواجهة الجمهورية
الأمنية. وهي واجهات تنصهر في منوال جامعة الدول وتنسق فيما بينها لمنع النظام
الإقليمي من الانهيار أو السقوط مثلما حدث خلال القمع الدامي الذي جوبهت به ثورات
الربيع الأخيرة حيث رأينا كيف هبّت الأنظمة الوراثية في الخليج لإنقاذ النظام
العسكري في مصر وسوريا من السقوط.
ما يجمع النظام الرسمي العربي أيضا
ويوحّد بوصلته التي رسمها الكفيل الغربي هو عداؤه المطلق وغير المشروط لكل حركات
المقاومة التي تمثل تهديدا وجوديا له. لا نقصد بحركات المقاومة الجماعات المسلحة
التي تعود في أصل نشأتها إليه وإلى أجهزة مخابراته بل نقصد أساسا الحركة المقاوِمة
فكرا كانت أو فنا أو أدبا أو ثقافة أو تربية أو عقيدة. أما حركة المقاومة في
فلسطين فلم تنشأ من رحم النظام الرسمي الذي تعبّر عنه وتنوبه سلطة التنسيق الأمني
في رام الله بل نشأت فعلا مقاوِما لهذا النظام.
أنشأت السلطة العربية عشرات الواجهات
الفكرية والثقافية والحزبية لتمثل دور المقاومة من أحزاب وجمعيات وتيارات ومؤسسات
دينية هدفها الأساسي هو منع أي فكر مقاوم حقيقي من الظهور. فليست التيارات القومية
واليسارية والإسلامية واللبرالية المتحركة في فلك السلطة إلا خلايا سرطانية تهدف
إلى محاربة كل الخلايا الحية التي يمكن أن تعصف بسرديات النظام الرسمي وتكشف
خياناته.
كابوس المقاومة في غزة
تحمل المقاومة الفلسطينية في غزة ثلاثة
خصائص أساسية تؤرق هدوء الاستبداد العربي. فهي أولا حركة إسلامية عقائدية تتماهى
بشكل أو بآخر مع العدو اللدود للنظام العربي وهو فكر الإخوان المسلمين رغم اختلاف
السياقات والمرجعيات والأهداف والمنطلقات. وهي ثانيا حركة مسلحة على خلاف حركة
الإخوان في الأقطار العربية وهي في صدام مباشر مع المحتل منذ أكثر من نصف قرن ولم
ينجح رغم كل مجازره وجرائمه في استئصالها. أما ثالثا وهذا أخطر خصائصها فهو ما
تحمله من رمزية ثورية مقاوِمة ملهمة لبقية الشعوب العربية وحركات التحرر في العالم
فكيف يمكن لحركة صغيرة محاصرة في قطعة صغيرة من الأرض أن تصمد كل هذا الصمود في
وجه أعتى آلات الموت في حين رضي مئات الملايين من العرب والمسلمين بالطاعة والخضوع
للمحتل ووكلائه؟
ليس توحش المجازر اليوم ودموية القصف في الحقيقة إلا آخر رقصات الديك المذبوح الذي عرّته المقاومة من قناع القوة وأسقطت عنه لباس الضحية وفضحت أمام العالم حقيقته بأنه كيان مغتصب يستنسخ بقبح جوهر الفعل الاستعماري ويعبر بوضوح عن دموية الفكر النازي.
من هنا أصبح القضاء على حركة المقاومة
في فلسطين عموما وفي غزة تحديدا شرطا أساسيا لبقاء النظام الإقليمي من ناحية
ولتوسع الاحتلال من ناحية أخرى ولاستمرار هيمنة القوى العظمى على البلاد العربية
وثرواتها من ناحية ثالثة. السلطة العربية سلطة عمياء وقوّة وظيفية لا تستفيد من
هامش المناورة الذي قد توفره لها حركة المقاومة فتستعملها كورقة ضغط على النظام
الدولي كما تفعل إيران بنجاح محدود بل هي لا تدرك أن النظام الدولي نفسه قد يضحي
بها يوم تنتفي شروط الحاجة إليها.
في مصر تحكم السلطات العسكرية هناك خنق
القطاع عبر معبر رفح كما تشارك بقوة في التنسيق الأمني والاستخباراتي مع المحتل
وتساهم بشكل مباشر في إغراق الأنفاق وبناء العوازل الإسمنتية وتعذيب عناصر
المقاومة. وفي الخليج باستثناء قطر والكويت والسلطنة فإن التنسيق الأمني والدعم
المالي والعسكري والدبلوماسي صار ظاهرا للعلن وكذا الأمر في الأردن. أما في لبنان
فإن الوجود الفلسطيني نفسه صار مهددا بعد تحول حزب الله إلى ذراع إيرانية لها
أجنداتها الخاصة على الحدود مع العدو.
تفاقم الوضع بعد موجة التطبيع العلني
الأخيرة حيث رأت السلطة العربية في بقاء المقاومة وقدرتها على الصمود تهديدا
لمشاريعها الاقتصادية والسياسية في المشرق العربي وصارت مهمة القضاء عليها أمرا
ملحا. ساهمت انتصارات المقاومة الأخيرة وصمودها وتضحياتها في شحن المعنويات
الشعبية خلال الأسابيع الأخيرة وخلقت موجة عارمة من التعاطف معها وهو ما ضاعف من
أزمة الحكومات العربية.
لن يكون ما بعد غزة كما كان قبلها مهما
حاولت أنظمة الحكم مسح الحدث من الذاكرة الشعبية بل إنه سيخلق موجات ارتدادية
سيكون لها أثر خطير على الأنظمة الحاكمة في الإقليم وعلى كيان الاحتلال الذي بدأ
يترنّح منتظرا ساعة الحسم الأخيرة.
ليس توحش المجازر اليوم ودموية القصف في
الحقيقة إلا آخر رقصات الديك المذبوح الذي عرّته المقاومة من قناع القوة وأسقطت
عنه لباس الضحية وفضحت أمام العالم حقيقته بأنه كيان مغتصب يستنسخ بقبح جوهر الفعل
الاستعماري ويعبر بوضوح عن دموية الفكر النازي.