طرحت
تركيا في وقت مبكر من
العدوان الإسرائيلي على غزة مبادرة تتضمن
ما بات يٌعرف باسم "نظام الضمانة" وذلك بعيد فشل مجلس الأمن في تمرير
مشروع قرار روسي يقترح هدنة إنسانية فوريّة في غزّة وذلك في 17 تشرين أول/ أكتوبر
2023. وبالرغم من أنّ المبادرة لم تكن واضحة آنذاك، إلا أنّه سرعان ما بدأت تتبلور
شيئا فشيئا بعد أن قام وزير الخارجية هاكان فيدان بطرحها خلال قمّة القاهرة للسلام
في 21 تشرين أول/ أكتوبر 2023 والمعنيّة بتطورات الوضع في
فلسطين والعدوان
الإسرائيلي على غزّة.
تقوم فكرة المبادرة على تحقيق وقف إطلاق النار أولا، ثمّ تحويله إلى
وقف دائم ومستدام، ثم الانتقال إلى مساعي الحل النهائي الذي يضمن تحقيق السلام والأمن
والاستقرار من خلال مجموعة من الضامنين لكلا الطرفين، حيث اقترحت تركيا أن تكون
ضمن المجموعة الضامنة للطرف الفلسطيني، في حين تقوم أطراف أخرى خارجية بضمان
الجانب الإسرائيلي. ومفهوم الضمان هنا يعني أنّ الأطراف المعنية ستضغط على الطرفين
لمنع خرق الاتفاقات التي يتم التوصل إليها ومنع التصعيد في حال حصول ذلك ومحاسبة
الطرف الذي يقوم بخرق الاتفاقات.
قام الجانب التركي بعد ذلك بتسويق المبادرة إقليمياً ودولياً خلال
لقاءات جمعت وزير الخارجية التركي مع نظرائه في الدول العربية والإسلامية
والخليجية. وفي تصريح له بتاريخ 25 تشرين أول/ أكتوبر 2023، قال الرئيس التركي
رجب طيب أردوغان أن المقترح المذكور هو الطريقة الأكثر واقعية وفعالية حالياً
للتوصل إلى حل واقعي للصراع، على الأقل على المدى القصير والمتوسط. وشدد الرئيس
أردوغان على أننا "مستعدون لأن نكون أحد الضامنين للجانب الفلسطيني بحضورنا
الإنساني والسياسي والعسكري"، ودعا الدول التي لديها رغبة في إيجاد حل لهذه
القضية إلى تقييم الاقتراح في أقرب وقت ممكن. ممكن، اتخاذ خطوات ملموسة، وفتح
الأبواب أمام السلام.
تؤيد تركيا القرارات الدولية والمبادرات الإقليمية التي تقر بحق
الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، وتطالب باقامتها كجزء من
المعادلة التي تهدف إلى تحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة، لكنّها تعاني من
ضعف التأثير لاسيما خلال التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في مقابل
الدعم اللامحدود الذي تتلقاه إسرائيل من الولايات المتّحدة والحكومات الغربية.
تقوم فكرة المبادرة على تحقيق وقف إطلاق النار أولا، ثمّ تحويله إلى وقف دائم ومستدام، ثم الانتقال إلى مساعي الحل النهائي الذي يضمن تحقيق السلام والأمن والاستقرار من خلال مجموعة من الضامنين لكلا الطرفين..
حاولت أنقرة في مرحلة من المراحل زيادة نفوذها وتأثيرها في الملف
الفلسطيني من خلال العمل السياسي سواء الوساطات التي كانت نشطة في الفترة بين2002
و2009، ومن ثم حملات الضغط الإعلامي، وبعدها من خلال مبادرات المجتمع المدني
كالحملات البحرية التي هدفت إلى كسر الحصار عن غزة (سفينة ماوي مرمرة 2010)، لكن
مثل هذه الخطوات لا ترق اليوم إلى مستوى الإجرام الإسرائيلي، ولا تؤمّن لتركيا
موطئ القدم اللازم للعب دور قوي في الملف الفلسطيني في ظل صراع القوة الصلبة
الجاري في المنطقة.
ومن هذا المنطلق بالتحديد، فإنّ المبادرة التركية الحالية تحاول
معالجة نقاط الضعف التركية في مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة، وهي نقاط ضعف
سبق وأن أشرنا إليها في مداخلات سابقة وتتضمن عوائق جغرافية وسياسية واقتصادية
تقيّد تحرّكات أنقرة وتجعلها أقل فعالية بكثير من غيرها من الدول في الملف
الفلسطيني أو حتى بالمقارنة بدورها في مناطق مختلفة كما هو الحال في سوريا أو
ليبيا أو أذربيجان أو الصومال. وحقيقة أنّ أنقرة لا تتمتّع بتواجد على الأرض أو
حتى علاقات قوية مع حماس أو إسرائيل بشكل يتيح لها موطئ قدم هناك بالأصالة أو
الوكالة أو حتى بالصلة، يعني أنّ تأثيرها على الطرفين ضعف للغاية كذلك.
المقترح التركي يتيح لأنقرة التواجد الفعلي على الأرض على المستويات
السياسية والإنسانية والعسكرية ويجعلها لاعباً مؤثراً في المعادلة. لكن هذا
التصوّر يعتمد على وجود موافقة أو تبني للمقترح من قبل الطرف الآخر، أي الولايات
المتّحدة وإسرائيل والدول الأوروبية، وهو أمر غير متوقع حاليا. فضلاً عن ذلك، فإنّ
الدول العربية التي من المفترض أن يشارك بعضها في ضمان الجانب الفلسطيني لم يبد
حماسة للفكرة، بل إنّ بعض الدول العربية عارضتها، وهو ما يعني أنّ المقترح التركي
سيبقى حبيس التصورات النظرية.
وحتى إذا ما افترضنا جدلاً وجود موافقة مبدئية من جانب الدول
الغربية، فإنّ المقترح يعاني من معضلة أساسية وهي كيف سيكون بالإمكان إلزام
إسرائيل بأي إتفاق إذا ما كانت الأطراف التي من المفترض أن تضمن الموقف الإسرائيلي
غير قادرة او راغبة بالضغط على إسرائيل كما يتبيّن من الموقف الحالي؟
الحالة الوحيدة ربما التي من المكن أن يتم الموافقة من خلالها على
المقترح هي إمّا تفادي تحمّل مسؤولية الضغط على إسرائيل من جانب واحد وبالتالي
إشراك أكبر مجموعة ممكنة من الدول لتلافي تحمّل المسؤولية منفردة، لكن لا يوجد سبب
مقنع لكي نفترض أنّ الولايات المتّحدة أو الدول الغربية تريد ذلك. الاحتمال الآخر،
هو أن تطلب إسرائيل بنفسها هذا الأمر نتيجة لعدم قدرتها على إكمال عملياتها
العسكرية مع إستمرارها في نفس الوقت في تلقّي الضربات والخسائر البشرية، وهو أمر
لا يبدو أنّه عنصر فاعل في المعادلة حالياً.