قبل أيام قليلة، تواصل معي مكتب السيناتور الأمريكي مايكل بينيت، وهو عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كلورادو، والمنتمي إلى الحزب الديمقراطي، ويشارك في لجنة التمويل والاستخبارات ومعروف عنه توجهاته الليبرالية، وذلك لترتيب لقاء معه لمناقشة الأوضاع في
غزة وتداعياتها على
مصر. امتد اللقاء لمدة ٤٥ دقيقة، وشارك به أيضا متخصص في القضايا الأمنية والسياسية من إسرائيل، هو الدكتور أرييل لفيتي، للحديث عن توجهات الرأي العام هناك والموقف العام من الحرب.
أدار السيد بينيت النقاش بتوجيه أسئلة متنوعة لي وللمشارك الآخر، وكان واضحا أنه يبحث عن إجابات على سؤالين محددين. السؤال الأول هو إذا كانت مصر على استعداد لتحمل مسؤولية إدارة قطاع غزة، أو مسؤولية المشاركة في إدارته بعد أن تضع الحرب أوزارها. السؤال الثاني هو ما إذا كانت أغلبية المجتمع الإسرائيلي ترفض أم تقبل الانفتاح، أيضا بعد انتهاء الحرب، على عملية تفاوضية بين حكومتهم والجانب الفلسطيني على أساس حل الدولتين. كان واضحا أيضا أن السيناتور لا يبحث عن مواقف، بل عن معلومات وتحليل ومناقشة للممكن فعليا على أرض الصراع، دون مبالغات كلامية أو أيديولوجية.
في بداية حديثي، سجلت ارتياحي بشأن ابتعاد النقاش داخل الكونغرس الأمريكي، بمجلسيه الشيوخ والنواب، عن الأفكار الجنونية المتعلقة بالتهجير القسري للفلسطينيين من غزة باتجاه الأراضي المصرية، التي روج لها البعض بعد ٧ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣، في تهديد صريح للسيادة الوطنية ولاعتبارات الأمن القومي لبلادنا، ومسعى لتصفية القضية الفلسطينية يجرمه القانون الدولي وعديد قرارات الأمم المتحدة. أشرت أيضا إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن انتقلت في مواقفها من إشارات ملغومة حول إمكانية التهجير القسري، تواترت في الأيام الأولى للحرب، إلى اعتماد للموقف المصري الرافض للتهجير والمؤيد فلسطينيا وأردنيا وعربيا.
أما فيما خص السؤال عن إدارة غزة بعد الحرب، فأكدت للرجل أن الأولوية الآن ينبغي أن تكون لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب؛ حماية لأرواح المدنيات والمدنيين الفلسطينيين وللمنشآت العامة والخاصة في قطاع غزة من الدمار، وتحجيما لمخاطر امتداد رقعة الحرب إقليميا؛ إن باتجاه لبنان أو باتجاه المزيد من التصعيد من قبل الحوثيين في البحر الأحمر ومليشيات إيران الأخرى في العراق وسوريا. أكدت كذلك أن الموقف المصري من غزة له محددات واضحة، هي رفض الوجود الأمني الإسرائيلي فى القطاع بعد وقف إطلاق النار، ورفض دور طويل المدى لإسرائيل في حكم وإدارة غزة، والتمسك بعودة السلطة الفلسطينية الوطنية كجهة الحكم والإدارة الشرعية للشعب الفلسطيني إلى القطاع، وربط العودة بصناعة توافق واسع بين القوى والفصائل كافة، والإصرار على الربط بين نقاشات «اليوم التالي فى غزة» وإقرار آلية دولية ملزمة لإدخال المساعدات الإنسانية، ثم إطلاق جهود إعادة الإعمار والربط بينها وبين أفق سياسي، يستند إلى تفاوض مدعوم إقليميا ودوليا بين إسرائيل وفلسطين على أساس حل الدولتين.
أما أمور كتحمل مسؤولية إدارة القطاع إنسانيا وأمنيا وسياسيا أو المشاركة فيها أو قبول إدارة خارجية، وبغض النظر عن الصيغ الإقليمية والدولية المتداولة، فتلك جميعا مرفوضة مصريا ولأسباب تتعلق بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني فى تحمل مسؤوليات الحكم والأمن في الأراضي المحتلة في ٥ حزيران/يونيو ١٩٦٧ ومن بينها غزة، وتتعلق أيضا باعتبارات الأمن القومي المصري التي يهددها استمرار الحرب، وتصاعد المأساة الإنسانية وغياب الاستقرار في القطاع. كذلك ترفض مصر فصل المسارات بين الضفة الغربية وغزة، الذي تمارسه إسرائيل ويستهدف تفريغ حل الدولتين من المضمون، والقضاء على فرص تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، ومواصلة سياسات الفصل العنصري والاستيطان والعدوان.
أظهر السيد بينيت تفهمه، وتحدث عن الضغوط الأمنية والاقتصادية المتراكمة التي تواجهها مصر، وعقب السيناتور بسؤال عن الموقف المصري من
حماس التي توافق الإدارة الأمريكية ويوافق الكونغرس بأغلبيته الساحقة، من الحزبين الديمقراط والجمهوري، على الهدف الإسرائيلي المتمثل في القضاء عليها، واستبعادها التام من ترتيبات حكم وأمن وإدارة غزة.
بهدوء بالغ، فالرجل بسؤاله أدخلني فى حقل ألغام أمريكي بامتياز، ذكّرته أن مصر أدانت قتل وخطف وترويع السكان المدنيين الإسرائيليين في ٧ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣ مثلما أتبعت ذلك بإدانة العنف المفرط للجيش الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني في غزة، ومن قبل المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية والقدس. ذكّرته أن الشكوك داخل إسرائيل كما في الإقليم والعالم تتصاعد فيما خص واقعية هدف القضاء على حماس واستئصالها، خاصة في ضوء ارتفاع معدلات تأييد المقاومة المسلحة في عموم الأراضي المحتلة، على وقع خرائط الدماء والدمار والنزوح داخل غزة التي ترتبها الحرب، وعلى وقع تمكين الحكومة الإسرائيلية للمستوطنين المتطرفين من ممارسة العنف، واقتطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة والقدس. ذكرته، أخيرا، أن الواقعية السياسية تحتم افتراض بقاء حماس فاعلة في المعادلة الوطنية الفلسطينية ومعها بقية الفصائل المسلحة، وتحتم أيضا البحث عن سبل فعالة لصناعة التوافق الوطني بين مختلف القوى والفصائل الفلسطينية، باتجاه تفضيل الحل التفاوضي والسلمي للصراع مع إسرائيل، على أساس حل الدولتين وتحقيق الأمن وتخفيف المعاناة الإنسانية الرهيبة على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
ثم ختمت بالإشارة إلى أن مصر تستطيع في هذه السياقات كافة، الاضطلاع بأدوار مركزية نظرا لعلاقاتها الجيدة مع القوى الفلسطينية، ولكونها شريك سلام بالنسبة إلى إسرائيل، ولها حلفاء فى الإقليم ينسقون معها بقوة كالأردن، وتنفتح على التعاون مع من توترت علاقتها معهم خلال السنوات الماضية كقطر وتركيا.
عندها توقف دوري في اللقاء باستثناء البقاء على شاشة «زووم» مع السيناتور بينيت والمشارك الإسرائيلي، الذي وجهت له بقية الأسئلة وتلك ارتبطت بتفضيلات الرأى العام في بلاده لمواصلة الصراع مع الجانب الفلسطيني، في مقابل الانفتاح على حل الدولتين. والحقيقة أن إفادة السيد لفيتي كانت موضوعية، حيث أكد أن الأغلبية الساحقة داخل الدولة العبرية لا ترى راهنا فرصا لصناعة السلام مع الجانب الفلسطينى، وذلك بسبب الصدمة النفسية الهائلة لما حدثت في ٧ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، ولاستمرار احتجاز الرهائن الإسرائيليين في غزة، وكذلك بفعل تفريغ عملية السلام من المضمون طوال السنوات الماضية. تحدث أيضا عن أن ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين بين الفلسطينيين والمشاهد المروعة للدماء والدمار في غزة، لا تؤثر على نحو واسع في توجهات الرأي العام في إسرائيل، وذلك لكونها إما توضع في سياق الهدف المتوافق عليه في صفوف الأغلبية، وهو القضاء على حماس، أو لأن التعامل معها يكون على نحو مسيس وموجه وغير صادق، يحمّل حماس والفصائل المسلحة الأخرى مسؤولية الضحايا المدنيين، بادعاء استغلالهم كدروع بشرية.
ختم السيد لفيتي ملاحظاته بالتذكير أن الأمل الوحيد في تغير مواقف وتفضيلات الأغلبية في إسرائيل، سيرتبط بتغير محتمل في الحكومة بعد انتهاء الحرب، تغير يمكّن قوى يمين الوسط من إدارة السلطة التنفيذية، وربما الانفتاح تدريجيا على عملية تفاوضية مع الفلسطينيين، وتهدئة أو هدنة واسعة مع حماس والفصائل، وكذلك مع حزب الله في لبنان.
(الشروق المصرية)