تشتد المعارك في
غزة بين قوات الاحتلال الغازية وبين رجال المقاومة الفلسطينية، كما تزداد وتيرة الهجمات الإسرائيلية من الجو والبر والبحر، لقتل مزيد من المدنيين العزل في القطاع الذي يخضع أيضاً للحصار في ظل الهجوم الإسرائيلي عليه.
وتتصاعد التوترات على الجبهة الجنوبية اللبنانية، وترتفع حدة الصدامات، بشكل يخرج معادلة الردع الموجودة على هذه الجبهة عن السياق المحسوب تدريجياً.
وأعلنت أميركا عن حشد تحالف دولي لمواجهة هجمات
الحوثيين ضد السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة لإسرائيل في البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، في تطور جديد، قد يفتح جبهة قتال إضافية في المنطقة.
كما واجهت إيران هجوما سيبرانياً إسرائيلياً على محطات الوقود، ضمن ذات البعد الزماني، ليذكر ذلك بحروب الظل بين إيران وإسرائيل التي بدأت قبل سنوات، كما تعيد التطورات في البحر الأحمر إلى الذاكرة ذات الأسباب التي أشعلت حرب العام ١٩٦٧.
كل هذا في ظل اشتداد الأزمة في الشرق الأوسط وتمددها لأبعاد لم تكن مرغوبة، فبالإضافة إلى الجبهة المشتعلة في غزة، وزيادة اشتعال الجبهة على الحدود الجنوبية اللبنانية، وتصاعد احتمال المواجهة على الجبهة اليمنية، بالإضافة إلى الهجمات الإسرائيلية السيبرانية على إيران، فإلى أين تتجه المنطقة، في ظل معطيات جديدة جعلت من غزة مفتاحاً لأي تطورات قادمة؟
بعد شهرين ونصف الشهر من الهجوم الإسرائيلي الكاسح على غزة، الذي تتبناه الولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وأسقط معه أكثر من مائة ألف فلسطيني، ما بين شهيد ومفقود وجريح، من بين مليوني نسمة يشكلون عدد سكان هذا القطاع، لم تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة من هذا الهجوم.
ويمكن رصد تراجع وتخبط التصريحات الأميركية والإسرائيلية حول مدى إمكانية تحقيق تلك الأهداف، وضبابية المشهد لدى الطرفين لمستقبله، في ظل تصاعد مكانة القضية الفلسطينية، وحشدها تعاطفاً رسمياً وشعبياً منقطع النظير.
وعكست نتائج التصويت على قرار اعتمدته الجمعية العامة قبل يومين ذلك بوضوح، حيث واجهت إسرائيل والولايات المتحدة، تأييد ١٧٢ دولة، منهم معظم دول القارة الأوروبية، أكدت جميعاً على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في العام ١٩٦٧.
في ظل زيارات مكوكية متكررة ومستمرة لمسؤولين أميركيين زادت وتيرتها بكثافة خلال الأيام القليلة الماضية، سواء توجهت لإسرائيل، أو لجهات تتدخل في مفاوضات وقف إطلاق النار مع حركة حماس، يبدو أن هناك معالم صفقة تتحدد ملامحها في الأفق.
وتشير التصريحات الإسرائيلية الأخيرة إلى تطورات مهمة في ملامح تلك الصفقة، فأشار السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة إلى أن إسرائيل مستعدة لوقف إطلاق النار مقابل الإفراج عن المحتجزين، وأكدت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية نقلاً عن مصادر مطّلعة استعداد اسرائيل لدفع أثمانٍ باهظة في صفقة تبادل الأسرى، كما اعتبر رئيس أركان الحرب في دولة الاحتلال أن تفكيك حركة حماس لا يعني تدمير جميع الأنفاق وقتل نشطاء الحركة.
كما تركزت المطالب الأميركية الأخيرة على ضرورة تخفيض وتيرة الهجوم الإسرائيلي على غزة، والتوصل لصفقة لتبادل الأسرى، والتأكيد على عدم توسع نطاق الصراع في الشمال مع لبنان.
وحاربت الولايات المتحدة على مدار سنوات الرغبة الإسرائيلية بشن حرب على إيران.
يأتي ذلك في ظل تورط الولايات المتحدة بحرب مفتوحة على الجبهة الأوروبية، ودخول إدارة بايدن إلى عام انتخابي فاصل، سبقه تراجع شعبية الرئيس بايدن بشكل كبير بسبب سياساته تجاه تطورات الصراع في الشرق الأوسط.
وفي نطاق تطورات الصراع مع الجبهة اللبنانية، أكد وزير الدفاع الأميركي خلال زيارته قبل أيام للمنطقة على ضرورة حل أزمة الحدود مع لبنان بطرق دبلوماسية، وهو في الواقع التوجه الذي تبنته واشنطن منذ اليوم الأول من الهجوم الإسرائيلي على غزة، الذي أنتج التوتر على هذه الجبهة.
وتتصاعد التوترات على الجبهة اللبنانية في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة، حيث حشدت حكومة الاحتلال ٢٠٠ ألف جندي على الجبهة الشمالية، وأخلت أكثر من ٦٠ ألف مستوطن منها.
وتصر إسرائيل من خلال تصريحاتها ومناوراتها العسكرية على إبعاد حزب الله عن الحدود الشمالية، خصوصاً بعد تطورات هجوم حركة حماس على منطقة غلاف غزة.
ودفعت هذه التطورات باريس لإرسال وزيرة خارجيتها للمنطقة لتؤكد على عدم نضوج أي حلّ قريب لتسوية دبلوماسية، في ظل الحاجة إلى تفاهم بين الطرفين اللبناني والإسرائيلي على نقاط تتعلق باحتلال إسرائيل أراضي لبنانية، وليس فقط خلق مناطق عازلة بين الحدود المشتعلة.
وتأتي التصريحات الأميركية الرنانة التي اعتادت المنطقة عليها، بتشكيل تحالف لتعزيز الأمن والازدهار الإقليمي لردع هجمات الحوثيين، لصالح إسرائيل، في ظل توقيت واعتبارات شديدة الحساسية والخطورة.
فقد أعلن الحوثي، في تطور جديد على إجراءاته التي اتخذها دعماً لغزة، استهداف السفن الإسرائيلية أو تلك التي تتوجه لإسرائيل، والعابرة من خلال مضيق باب المندب للبحر الأحمر.
وأكدت مصادر مصرية مطلعة، أن ٥٥ سفينة قررت بالفعل تغيير مسارها من بين أكثر من ٢٠٠٠ سفينة تعبر قناة السويس، في أعقاب ذلك التطور.
استطاعت الولايات المتحدة ضم تسع دول فقط من حلفائها لذلك التحالف ضد الحوثيين، من بين ٤٠ دولة عرضت عليها المشاركة، ولم تكن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية شركاء في ذلك التحالف.
وأوقف هجوم إسرائيل على غزة مفاوضات التطبيع التي تقودها الولايات المتحدة بين السعودية وإسرائيل، وتتبنى السعودية وقف إطلاق النار في غزة، وتقود مع عدد من الدول العربية والإسلامية حراكاً سياسياً ودبلوماسياً لأجل ذلك، في تناقض مع توجهات واشنطن، وتستمر بالتفاوض مع الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن، في ظل تطبيع علاقاتها مع إيران. ويبدو أن سيناريوهات قصف الحوثيين من السماء، لردع هجماتهم على السفن الإسرائيلية، لن ينجح في إيقافها، وسيزيد من التوترات في المنطقة، خصوصاً مع إيران، التي لا ترغب الولايات المتحدة بامتداد المواجهة معها.
كما أن حرب المواجهة البحرية من شأنها أن توتر المجرى البحري أكثر، وتقوض الأمن بشكل كبير فيه.
ليس هناك من يرغب في حرب إقليمية واسعة باستثناء إسرائيل، التي أثبت هجومها على غزة أنها لا تقوى على تحمل مسؤولية هجومها على غزة وحدها. فالجسور الجوية للأسلحة الأميركية، والقوات الأميركية التي تقيم في مراكز صنع القرار في إسرائيل، والرحلات المكوكية المحملة بالتوجيهات السياسية لم تعد خافية عن أنظار العالم.
وليس هناك شك في الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، لكن إلى أي مدى تكمن مصلحة الولايات المتحدة اليوم في الانخراط في حرب إقليمية متعددة الجبهات، ستتحمل التكلفة الأهم فيها، كما أثبت هجوم إسرائيل على غزة.
تدخلت الولايات المتحدة خلال تطورات الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزة لحماية إسرائيل من نفسها أكثر من مرة، وتمتلك وحدها القدرة على ردع توجهات وسياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية كما أثبتت الوقائع والتجارب التاريخية أيضاً.
ويبدو أن غزة هي المفتاح الآن، فالتوصل لاتفاق في غزة يوقف إطلاق النار، وينجز صفقة تبادل أسرى، سيجمد الوضع في جنوب لبنان، ويوقف هجمات الحوثي في البحر الأحمر، ويبعد شبح حرب إقليمية ستكون صعبة على الجميع.
(الأيام الفلسطينية)