قد لا يصح لأحد أن يأخذ كلام الرئيس الأمريكي جو
بايدن على محمل الجد الكامل، فالرجل العجوز المتلعثم، يبدو ضائعا في متاهة، تواقتت رئاسته المتعثرة مع تغيرات جوهرية في الموازين الدولية، وسبقتها عقود من إعادة توزيع مقادير الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح، كانت تنذر ـ ربما تؤكد ـ نهاية زمن الهيمنة الأمريكية الأحادية على مصائر الكون، وتنتقل بجريان الحوادث إلى عالم متعدد الأقطاب والاختيارات.
وجاءت حرب أوكرانيا لتكشف ـ لا لتنشئ ـ التحولات العاصفة، ثم انتقلت النيران إلى منطقتنا مع حرب طوفان الأقصى، وفي الحربين معا، بدا أن بايدن يحاول قيادة وصنع الحوادث، لكنه تحول في إطراد إلى أسير للحوادث ونهاياتها، فهو يخسر الحربين، وتتحول تصريحاته عنهما إلى باب الهذيان، ويبدو الرجل كأنه «روبوت» بدائي قليل الذكاء، لا تصدر عنه أصوات، بل يُصدرون منه وله أصواتا مضطربة، بغير إيقاع موزون ولا انسجام ألحان، ولا تشير إلى اتجاه بذاته، بقدر ما تعكس الحيرة الشاملة وفوضى التصرفات المتخبطة.
تصور بايدن أن بوسعه حسم الأمر سريعا، لكنه علق في المستنقع، ويتلقى مع إسرائيل الهزائم ذاتها، ربما لذلك نصحوه، أن يتحدث عن خلافات مع حكومة الاحتلال
وفي الأيام الأخيرة مثلا، صدرت عن بايدن تصريحات ناقدة بعنف ظاهر لحكومة بنيامين نتنياهو في كيان الاحتلال، كان الرجل يتحدث في عيد «الحانوكا» اليهودي، وأعاد كالعادة تأكيد «صهيونيته»، وكامل ولائه للجالية اليهودية «الصهيونية» في أمريكا، وإن لم ينس التعبير عن مخاوفه على إسرائيل، التي وصفها، كما قال بأنها «الدولة اليهودية المستقلة»، وأعرب عن مخاوفه من سوء المصائر المتدافعة، وقال بالنص إن «سلامة الشعب اليهودي على المحك»، وإن دعم العالم يتقلص بسبب عشوائية القصف الإسرائيلي على
غزة، ما أوحى لكثيرين بتغير وارد في موقف بايدن، وأن واشنطن قد تسعى لوقف إطلاق النار، خصوصا أن بايدن تحدث علنا عن خلافاته مع نتنياهو، ودعا الأخير إلى تغيير حكومته، وضرورة العمل من أجل «حل الدولتين»، رغم أن إدارة بايدن قبل التصريحات بساعات، استخدمت حق النقض «الفيتو» لإسقاط قرار بوقف إطلاق النار في مجلس الأمن، صوتت لصالحه 13 دولة من مجموع 15 عضوا في مجلس الأمن، ثم عادت الإدارة نفسها بعد التصريحات، وصوتت ضد قرار مماثل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، صوتت لصالحه 153 دولة، بينما كان التصويت الأمريكي المعاكس معزولا في أقلية الأقلية الدولية، مع إسرائيل طبعا، ومع دول «ميكروسكوبية» لا ترى على الخرائط بالعين المجردة، وقد تكرر التصويت نفسه، أو ما يشبهه في الجمعية العامة ومجلس الأمن، وبدا ظاهرا أن التأثير الأمريكي يتقلص ويتداعى في اطراد، وأن الدعم الدولي لواشنطن مع تل أبيب يتضاءل إلى حد التلاشي، ليس فقط في شوارع وميادين المدن والعواصم الغربية الأوروبية، بل في الميادين الأمريكية ذاتها، وحتى بين قطاعات «يهودية» رافضة لحرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة، وفي حزب بايدن الديمقراطي نفسه، تصاعدت أصوات المتعاطفين مع محنة وقضية فلسطين، وبالذات في الجناح التقدمي، الذي يعبر عنه السياسي اليهودي المعروف السيناتور بيرني ساندرز، وبما زاد من حرج موقف بايدن، ومن صعوبة تحقيق أهدافه الشخصية، فهو يسعى لإعادة انتخابه للرئاسة في أواخر العام المقبل، بينما استطلاعات الرأي كلها، تظهر ربما استحالة فوز بايدن، ولأسباب كثيرة، بينها موقفه مما جرى ويجري في غزة من مجازر همجية وحشية، واندماج إدارته العسكري التام مع جيش الاحتلال، ودعم الاحتلال بجسور السلاح الجوية التي لا تتوقف، وبالمشاركة الفعلية والقيادة المباشرة في حرب الإبادة، بجنرالات التخطيط الحربي وبالقوات الخاصة، وحشد الأساطيل وحاملات الطائرات والغواصات النووية، وتزويد العدو بالقذائف والقنابل وبغير حدود، إضافة لترديد بايدن الببغائي للأكاذيب الفجة من وراء «إسرائيل»، وخرافات قطع «حماس» لرؤوس الأطفال، أو ادعاء وجود مركز قيادة «حماس» تحت مستشفى الشفاء تبريرا لتفجير مبانيه، وإلى غيرها من مئات الترهات والفضائح.
وقد تصور بايدن أن بوسعه حسم الأمر سريعا، لكنه علق في المستنقع، ويتلقى مع إسرائيل الهزائم ذاتها، ربما لذلك نصحوه، أن يغير نبرة صوته، وأن يتحدث عن خلافات مع حكومة الاحتلال، على أمل أن يسترد بعضا من ماء الوجه الغائض، وهو لن يستطيع بالتأكيد، فوقف إطلاق النار إن حدث قريبا، سوف يكون بإرادة المقاومة وبأدائها القتالي المذهل، الذي يكبد العدو الإسرائيلي الأمريكي خسائر بشرية عسكرية مضاعفة، ويجعل دخول جيش الاحتلال إلى غزة استدراجا إلى الجحيم، فوق إخفاق العدو حتى اليوم في استرداد أسير إسرائيلي أو أمريكي واحد حيا بالقوة المسلحة، فالمقاومة هي التي تصنع الحدث، وبايدن أسير لما تصنعه المقاومة، ولخيبة إسرائيل الثقيلة في الوقت ذاته، فليس للرجل الباهت شخصية قيادية أو خيال يذكر، وقد قضى عقود عمله السياسي كإبن خادم مطيع للمؤسسة الأمريكية الحاكمة، والمؤسسة نفسها في مأزق تاريخي غير مسبوق، وبينها وبين كيان الاحتلال «اندماج استراتيجي»، وكيان الاحتلال أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العالم، وخوف بايدن على مصير القاعدة الإسرائيلية مفهوم، فهو يعبر عن خشية المؤسسة الأمريكية نفسها، التي عكس مخاوفها الجنرال لويد أوستن وزير البنتاغون، الذي تخوف علنا من هزيمة إسرائيل استراتيجيا، فما جرى منذ هجوم السابع من أكتوبر إلى الآن، ليس فقط فشلا استخباراتيا وعسكريا لإسرائيل، وتحطيما لأصنامها، التي ذابت كتماثيل «العجوة» في وهج الحقيقة الحارة، وكان ما جرى فشلا وتحطيما للأصنام الأمريكية أيضا، وقد صارت أجهزة مخابراتها وجيوشها الضخمة موضع سخرية وتندر في العالمين، فرغم امتلاكها لأرقى أنواع التكنولوجيا، ولجيوش تبلغ موازنتها السنوية نحو 900 مليار دولار، ولمئات الآلاف، بل والملايين من العملاء السريين في كل أرجاء الدنيا، لم تعلم أمريكا بما كانت تخطط له «حماس» وأخواتها، وبما نفذته صباح السابع من أكتوبر المزلزل، رغم أن كل شيء كان مذاعا على الهواء تقريبا، ولا علمت أمريكا ـ مع إسرائيل ـ شيئا عن الخرائط الحقيقية لأنفاق «غزة»، ولا عن موارد القتال الشرس الأسطوري للمقاومين الفلسطينيين، وهم الذين لا يملكون سوى أسلحة بسيطة من صنع أيديهم، يذلون بها عدو الله وعدوهم، ولا يضرهم من خذلهم، ويمضون إلى نصر فارق في سيرة حروب التحرير الفلسطينية، فلن يعود شيء أبدا إلى ما كان عليه قبل «طوفان الأقصى».
صحيح أن هزائم أمريكا صارت حوادث روتينية من زمن، ومن فيتنام إلى أفغانستان، لكن هزائمها هذه المرة تأتي في سياق مختلف، في غمار صحوة عالمية متحدية للطغيان الأمريكي، وفي أجواء متذمرة لدى الحلفاء من الفشل الأمريكي، فأوروبا التي تبعت أمريكا في «حرب أوكرانيا» وفي «حرب غزة»، تحس الآن أكثر، أنها وقعت في فخ لا نجاة منه، وهو ما يفسر تفلت دول أوروبية متكاثرة من التزامها بالموقف الأمريكي المندمج بكيان الاحتلال، وهو ما تعكسه التصريحات الاستقلالية نسبيا من إسبانيا إلى فرنسا وبلجيكا وغيرها، واختلاف ميول التصويت في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحتى في تملص دول في «المعسكر الأنكلوساكسوني» من تبعيتها المطلقة لموقف واشنطن، على طريقة بيان كندا وأستراليا ونيوزيلندا الأخير، الذي طالب صراحة بوقف العدوان، ووقف إطلاق النار في غزة، ليس بسبب صحوة أخلاقية مفاجئة، بل بسبب إدراك ملموس متزايد، مفاده أن واشنطن تقودهم إلى الهزيمة المؤكدة، وأن واشنطن المندمجة مع كيان الاحتلال، تذهب بمصالح دولهم إلى الهاوية، وهو ما تحاول المؤسسة الأمريكية الحاكمة أن تلجمه، وأن تضغط على إسرائيل، لتقبل هزيمة لا مفر منها، فلا حركة «حماس» سوف يجري تقويضها، ولا الأسرى و»الرهائن» سوف يعودون بغير اتفاق تفاوضي مع «حماس» نفسها، يطلق به سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون العدو، بينما نتنياهو يواصل العناد لأسباب تخصه، فهو يعرف أن نهايته السياسية حانت، وأن قرار واشنطن بالتخلص منه صار وشيكا، فحكومة واشنطن تعرف خطورة المأزق أكثر، ويبدو بايدن في سباق لاهث مع الزمن، يريد أن ينجو بنفسه دونما عظيم أمل، وأن يؤجل موعد سقوطه، وأن يضحي برجلي حربه في فلسطين وفي أوكرانيا، ويراوغه الإحساس بأن سقوط نتنياهو قد ينفعه شخصيا، وأن ذهاب زيلينسكي قد يغطي على الهزيمة في أوكرانيا، وكلاهما ـ نتنياهو وزيلينسكي ـ صارا في وضع الذي يحارب طواحين الهواء، فقد قضي الأمر وجفت الأقلام وطويت الصحف، وصارت هزائم أمريكا شبه مكتملة عندنا وفي أوكرانيا.