إذا كان الاتهام بالعداء للسامية يظل مخيفا للنخب السياسية في الغرب وعاملا مؤثرا من بين عوامل أخرى تسبب مواصلة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا دعم إسرائيل على الرغم من حرب الإبادة في غزة وجرائم الاحتلال والاستيطان تجاه الشعب
الفلسطيني، فإن التلويح بنفس الاتهام لم يعد مجديا فيما خص الاحتجاجات الطلابية التي تجتاح
الجامعات الأمريكية هذه الأيام وتضغط لإنهاء الحرب ولإيقاف إمدادات السلاح والمال الذاهبة إلى تل أبيب وللامتناع عن الاستثمار في المصالح العسكرية والأمنية لدولة الاحتلال والاستيطان.
لم يعد مجديا اتهام المشاركات والمشاركين في الاحتجاجات الطلابية بالعداء للسامية نظرا لغياب كل شعار وكل رمز وكل مطلب وكل محتوى قد يقترب من خلط بين الانتقاد المشروع لجرائم إسرائيل وبين الترويج لكراهية اليهود واليهودية التي يستند إليها العداء للسامية كإيديولوجية عنصرية وعنيفة. لم يعد مثل هذا الاتهام مجديا أيضا لأن الجسد الطلابي المشارك في الاحتجاجات يتسم بالتنوع الذي يأتي بيهود ومسلمين أمريكيين وكذلك بأمريكيين من أصول إفريقية وآخرين من أصول عربية للمطالبة بإنهاء الحرب وتغيير السياسات الداعمة للاحتلال والاستيطان. ولسبب ثالث لم يعد الاتهام بالعداء للسامية مجديا، ألا وهو وضوح الخطاب الاحتجاجي الذي يربط بين الانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني وبين نضالات المهمشين والمظلومين والمقهورين داخل الولايات المتحدة كحركة حياة السود مهمة ونضالاتهم خارجها كحركات الحرية والمساواة على امتداد الجنوب العالمي.
ومع أن بعض وسائل الإعلام الأمريكية وبعض الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي الاصطياد في المياه العكرة حين خرج أحد المؤثرين في احتجاجات طلاب جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك ليسحب الحق في الحياة من المنتمين للحركة الصهيونية وليتبع ذلك ارتفاع في أصوات من يروجون لعداء المحتجين للسامية، فإن الاعتذار السريع لمن أخطأ والتمييز القاطع من قبل قادة الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية بين الاختلاف المشروع في القيم والسياسة والممارسات العنيفة مع الصهيونية وبين التورط في مقولات غير مشروعة تشكك في الحق الأصيل في الحياة لم يمكنا الراغبين في تشويه المشهد العادل والإنساني للاحتجاجات من كثير الحديث والترويج.
تدلل الاحتجاجات الطلابية داخل الولايات المتحدة على أن سياسات وممارسات الحكومات في الغرب ليست محل تأييد عام من المجتمعات التي ينتفض بها البعض لإيقاف حرب الإبادة في غزة
ولأن التشويه لم يجد ولأن دائرة الاحتجاجات استمرت في الاتساع لتتحرك من جامعات النخبة الأمريكية إلى جامعات أخرى ومن نيويورك وكبريات المدن على الساحل الشرقي والغربي إلى مدن في وسط وجنوب الولايات المتحدة، لم تجد بعض الإدارات الجامعية المتخوفة من جلسات الاستماع في الكونغرس ومن مجالس أوصياء الجامعات التي تأتي بالهبات والمنح وفرص التمويل، لم تجد سوى الوسائل القمعية للسيطرة على الاحتجاجات بإخافة الطالبات والطلاب إن بالفصل من الدراسة أو الإبعاد عن قاعات الدرس أو التوقيف الشرطي المؤقت.
وما كان للوسائل القمعية سوى أن تستدعي المزيد من الاحتجاجات وأن تأتي بأعضاء من هيئات التدريس للتضامن مع الجسد الطلابي وللدفاع عن الحقوق المهدرة للمفصولين والموقوفين وللانتصار للحق السلمي في التعبير عن الرأي وأن تظهر للرأي العام في الولايات المتحدة وخارجها عدالة وإنسانية الحركة الاحتجاجية التي تطالب بإيقاف حرب الإبادة في غزة في مقابل رجعية الإدارات الجامعية التي تتنكر للحق في التعبير عن الرأي وتعاقب الطلاب على ممارسة الحرية بسلمية.
في الجنوب العالمي، فرغ تأييد الحكومات الغربية لحرب الإبادة في غزة بالسلاح والمال والدبلوماسية وصمت الولايات المتحدة وأوروبا الطويل على عنف الاحتلال والاستيطان والاضطهاد الممنهج للشعب الفلسطيني تشدق الأمريكيين والأوروبيين بمقولات حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية من المضمون. مجددا، تذكرت شعوب الجنوب العالمي أن حكومات الغرب التي تورطت في الماضي في الاستعمار وتتورط في الحاضر في غزو وتدمير بلدان كأفغانستان والعراق لا تعنيها لا الحقوق ولا الحريات حين يقترب الأمر من مصالحها. واليوم، تدلل الاحتجاجات الطلابية داخل الولايات المتحدة على أن سياسات وممارسات الحكومات في الغرب ليست محل تأييد عام من المجتمعات التي ينتفض بها البعض لإيقاف حرب الإبادة في غزة ومقاومة الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني والمدعوم أمريكيا وأوروبيا وللربط بين النضال العادل والسلمي من أجل فلسطين وبين النضالات العادلة والسلمية لإقرار حقوق المهمشين والمقهورين. وفي الانتفاضات الطلابية وحركات النضال في المجتمعات الغربية فرصة لها لضبط بوصلة تطورها، وفرصة للجنوب العالمي في الامتناع عن اختزال الولايات المتحدة وأوروبا في الحكومات والنخب السياسية.
(القدس العربي)