نشرت مجموعة من الباحثين مقالا مشتركا في مجلة "
فورين أفيرز"، قالوا فيه إن الحرب بين إسرائيل وحماس غيرت مواقف العرب، حيث أظهرت تراجعا في دعم الولايات المتحدة وحل الدولتين، وصعودا لإيران والمقاومة المسلحة.
وتحدث الكثير من المحللين عن الثمن العالي في
غزة، الذي تردد صداه حول العالم العربي، ما أكد بروز وقوة الصراع الإسرائيلي-
الفلسطيني، ودوره في تشكيل السياسة الإقليمية.
وبحسب المقال الذي ترجمته "عربي21"، فقد كان من الصعب تحديد مدى التأثير وقوته، إلا أن هذا قد تغير الآن. وفي الأسابيع التي سبقت الهجمات والأسابيع الثلاث التي أعقبتها، قام "الباروميتر العربي"، وهي شركة أبحاث غير حزبية، بدراسة ممثلة في
تونس، وبالتعاون مع شركاء محليين. وبالصدفة أجريت نصف المقابلات البالغ عددها 2.406 مقابلة في الأسابيع التي سبقت هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر. أما النصف الثاني فبعدها بثلاثة أسابيع. ومن خلال المقارنة وبدقة غير عادية، كشفت النتائج كيف غيرت الهجمات والرد الإسرائيلي الذي تلاها المواقف والآراء بين العرب.
وكشفت الدراسة عن نتائج مدهشة، حيث حذر الرئيس جو بايدن "إسرائيل" قبل فترة بأنها تخسر الدعم على المسرح الدولي. لكن هذا جزء من كرة الجليد، فمنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كل دولة شملتها الدراسة المسحية لديها مواقف إيجابية وعلاقات دافئة مع إسرائيل شهدت تراجعا في الأفضلية بين التونسيين. وكانت واشنطن الأكثر انخفاضا، وكذا حلفاؤها في الشرق الأوسط الذين عقدوا روابط مع إسرائيل خلال السنوات الماضية، شهدوا تراجعا في نسب الشعبية. أما الدول التي بقيت على الحياد، فقد شهدت تحولا بسيطا في شعبيتها. وازدادت أرقام الشعبية لإيران التي عارضت بشدة إسرائيل. وفي الأسابيع الثلاث بعد الهجمات، طابقت شعبية المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي شعبية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد، بل وتفوقت عليهما أحيانا، بحسب المقال.
وقال المقال إن تونس تظل واحدة من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة تتسم بخلافات واسعة ودراسة مسحية لا يمكن أن تقدم للخبراء كل شيء، حول تفكير الشعوب في كل المنطقة وما يشعرون به. ولكن المواقف التونسية قريبة من الريادة كما يمكن للمرء أن يتخيل. ففي استطلاعات سابقة للباروميتر العربي كانت مواقف التونسيين مشابهة لتلك التي رصدت في معظم الدول العربية الأخرى. فالسكان منفتحون على الغرب وكذا الدول العالمية الأخرى مثل روسيا والصين. ومن الناحية الجغرافية فهي بعيدة عن الآثار المباشرة للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني ولكنها استضافت مرة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وبهذه المثابة يمكن للمحللين والمسؤولين الافتراض وبثقة أن مواقف الشعوب في أماكن أخرى من المنطقة قد تحولت بنفس الطرق التي تحولت في الفترة القريبة في تونس. وكانت هذه التحولات دراماتيكية، فمن النادر ملاحظة هذا التحول وعلى قاعدة واسعة في مدار أسابيع. ولكنه لا يمثل ردة فعل لا إرادية أو انعكاسية من التونسيين. فلو غيروا مواقفهم لأنهم دعموا، ببساطة أفعال حماس، فلحدث تحول كبير في غضون يوم من الهجوم، وعندها فلربما استقرت أراء التونسيين.
وبدلا من ذلك فقد تحولت مواقفهم شيئا فشيئا وعلى قاعدة يومية وفي مدى ثلاثة أسابيع، وبشكل مهم على الفترة بكاملها. وعليه، فمواقف التونسيين لم تتحول بسبب هجمات حماس ولكن الأحداث التي أعقبتها، أي الضحايا المدنيين للعملية العسكرية الإسرائيلية في غزة. وبالتأكيد، زادت الحرب دعم التونسيين للقتال الفلسطيني. ومقارنة مع الدراسة التي أجريت قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، فهناك نسبة كبيرة من التونسيين اليوم يريدون من الفلسطينيين حل نزاعهم مع إسرائيل عبر القوة وليس التسوية السلمية، وفقا للمقال.
وأشار كاتبو المقال إلى أن استطلاعات الرأي تعتبر مهمة في الدول غير الديمقراطية، والتي يجب على قادتها القلق من التظاهرات، والتغيرات هذه في المواقف والتي ستشكل السياسات في العالم العربي وكذا العالم. وستجد الولايات المتحدة وحلفاؤها بالمنطقة صعوبة في توسيع اتفاقيات إبراهيم، أي الدول التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل. وربما خسرت الولايات المتحدة تميزها بالمنافسة مع الصبن وروسيا الصاعدة. وربما وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خسارة حلفاء قدامى مثل السعودية والإمارات والتي ستظهر مواقف أقل ودية من واشنطن وأكثر توجها نحو منافسيها الذين يحاولون منع تدهورهم الإقليمي. واستقبل البلدان منذ الهجمات، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أول زيارة له خارجية منذ غزوه أوكرانيا.
كما أن الدعم المتزايد للمقاومة المسلحة، وفقا للمقال، قد يترك تداعياته الخطيرة. ولم تؤد الحرب الإسرائيلية ضد حماس إلى حرب إقليمية، لكن كان عليها أن توقف هجمات من حزب الله. ومع ذلك فمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط هي عرضة بشكل مستمر لعدم الاستقرار. ولا أحد يعرف كيف سيفتح النزاع الحالي الباب أمام نزاع بالمستقبل.
وللحفاظ على استقرار الشرق الأوسط، فيجب على إسرائيل وحلفائها البحث عن طريقة لوقف الحرب والتوجه نحو الحل السلمي للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.
ويشير الباحثون إلى إنهم كانوا يديرون دراسة مسحية واسعة على عينة عشوائية للسكان في تونس عندما قامت حماس بهجومها في تشرين الأول/أكتوبر. وقرروا والحالة هذه استخدام المناسبة والحرب التي أعقبتها للتحقيق في الكيفية التي غيرت فيها المواقف. ولعدم وجود توقعات بتغيرات مهمة في الآراء بتونس قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر فقد نظروا لمعدل المواقف في الأسابيع الأولى من الدراسة الميدانية.
وفي الأيام التي أعقبت الهجمات، فقد اعتمد الباحثون على معدل المواقف في ثلاثة أيام وحساب البيانات بناء على هذا. فكل نقطة بالبيانات تمثل تقديرا في يوم من الدراسة المسحية ويومين قبلها. وكان آخر يوم في العمل الميداني هو 4 تشرين الثاني/نوفمبر وفي 27 تشرين الأول/أكتوبر كانت هناك مقابلات يومية كافية لتقديم بيانات وتحليل ذا معنى. وركز الباحثون على البيانات التي جمعت قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر وردود التونسيين على كل سؤال وهو ما أعطى فكرة عما حدث لمواقفهم وإن تغيرت، وتمت مقارنة هذه النتائج بمتوسط الدعم بناء على أحسن ما سجل في 27 تشرين الأول/أكتوبر.
وسجل الباحثون عددا من التحولات، وكان أكبرها النظرة للولايات المتحدة. ففي 1.146 مقابلة أجريت قبل هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، عبرت نسبة 40% من التونسيين عن نظرة إيجابية أو نوعا ما إيجابية من الولايات المتحدة. مقارنة مع 56% من الذين لم يعبروا عن مواقف محببة منها.
وبعد الحرب، تغير هذا سريعا، وبنهاية الدراسة المسحية، قالت نسبة 10% فقط إن لديها مواقف إيجابية من الولايات المتحدة، إلى جانب 87% كان لديها انطباع سلبي عن أمريكا. وقبل الهجمات كانت نسبة التونسيين الراغبين بعلاقات اقتصادية قوية مع الولايات المتحدة هي 56% وبعدها انخفضت إلى 34%. وكان بايدن وبالتحديد محبوبا في تونس وبنسبة دعم 29% قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وبعد الهجوم الإسرائيلي على غزة وإعلان بايدن عن دعمه غير المشروط لها انخفضت شعبيته إلى 6%.
وأوضح المقال أنه هذا الترابط لا يعني سببية، وفي هذه الحالة، من الصعب تفسير التغير المستمر للمواقف في تونس. فالحرب هي أكبر حدث أثناء الدراسة المسحية، وأكد المشاركون التونسيون أنهم كانوا يفكرون بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني وهم يقيمون موقفهم من أمريكا. وعندما سئلوا عن أهم سياسة يريدون من أمريكا تحقيقها بالمنطقة، زادت نسبة حل القضية الفلسطينية إلى 59% وتراجعت التنمية الاقتصادية إلى 20%.
ولم تترجم المواقف السيئة من أمريكا لمكاسب روسية وصينية، وكلاهما التزمتا بالحياد من الحرب. فقبل الحرب كان لدى التونسيين مواقف إيجابية من الصين بنسبة 70% وبعدها زادت خمس نقاط فقط. وكذا روسيا التي تراجعت نسبة المواقف الإيجابية من 56% قبل الحرب إلى 53% بعد اندلاعها وحتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر. وزادت نسبة الراغبين بعلاقات اقتصادية مع روسيا من 72% إلى 75%. وهناك إشارات عن إمكانية استفادة الصين على حساب أمريكا، فعندما سئل التونسيون عن السياسات من القضية الفلسطينية وأيها أحسن الأمريكية أو الصينية فضل ثلث التونسيين الصين.
لم تكن أمريكا الوحيدة التي تأثرت بالحرب وفقا للمقال، بل وحلفاؤها بالمنطقة، فالسعودية مثلا تراجعت شعبيتها من 73% قبل الحرب إلى 56% بعدها. وكذا نسبية شعبية ولي العهد من 55% إلى 40%. والتغيرات مهمة نظرا للروابط بين الرئيس قيس سعيد وولي العهد السعودي. ولم يشمل الاستبيان أسئلة مباشرة عن الإمارات، لكن طرح على المشاركين سؤال حول سياسات محمد بن زايد الخارجية، حيث حصل على 49% دعم قبل الحرب لتنخفض النسبة إلى الثلث بعدها.
ولم تتغير المواقف من تركيا، قبل وبعد الحرب حيث ظلت النسب كما هي، 68% فيما تراجعت شعبية الرئيس رجب طيب أردوغان من 54% إلى 47% وزادت نسبة الراغبين بعلاقات اقتصادية مع أنقرة من 57% إلى 67%.
واستفادت إيران من الحرب، ومع أن الدراسة المسحية لم تشمل على أسئلة عن إيران إلا أنها تضمنت سؤالا حول سياسية خامنئي الخارجية، لترتفع شعبيته من 29% قبل الحرب إلى 41% بعدها. وبالنسبة لـ "إسرائيل"، فلم تكن أبدا محبوبة بين التونسيين، لكن دعم التطبيع الذي وصل إلى نسبة 12% قبل الحرب انخفض إلى 1% بعدها.
وتغيرت مواقف التونسيين من حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، فقبل الحرب دعمت نسبة 66% حل الدولتين بناء على حدود 1967 و 18% حلا دبلوماسيا بديلا، مثل الدولة الواحدة ونسبة 6% اختارت طرقا "أخرى" مثل المقاومة المسلحة. وبنهاية الدراسة المسحية دعمت نسبة 50% من التونسيين حل الدولتين وتراجع الدعم لدولة واحدة سبع نقاط، أما الدعم للمقاومة المسلحة فقد ارتفع ثلاثين نقطة أي 36%.
وقد لا تؤثر هذه النسبة على الحرب، نظرا لبعد تونس عن منطقة النزاع، لكن النسبة ستكون خطيرة في الدول القريبة منه مثل لبنان والأردن وسجلت فيها تحولات بالمواقف. فلا يمكن للجيل الذي شاهد القصف وجثث القتلى والعائلات المكلومة وصور الرعب على التلفاز ومنصات التواصل أن ينساها. والحقيقة البسيطة من الاستطلاع هي أن فلسطين تظل حيوية للعالم العربي ولا يمكن لإسرائيل هزيمتها بالقنابل. ولم تفقد القضية أهميتها بين الأجيال الجديدة ولا يوجد موضوع في العالم العربي يشعر فيه الناس بالرابطة الفردية والعاطفية مثل فلسطين. وهذا واضح من التغير السريع في مواقف التونسيين وعلى مدى أسابيع. والنتائج مهمة وسط التحديات المحلية والأزمة الاقتصادية التي تواجه تونس، ومع ذلك يريد السكان علاقات اقتصادية أقل مع الولايات المتحدة.
كُتاب المقال:
شارك في كتابة المقال كل من مايكل روبينز، مدير وباحث رئيسي مشارك في الباروميتر العربي، وماري كلير روتش مديرة التكنولوجيا والإبداع في الباروميتر العربي، وأماني إي جمال، المؤسسة المشاركة والباحثة الرئيسية المشاركة في الباروميتر، وعميدة مدرسة الشؤون العامة والدولية وأستاذة كرسي إدوارد سعيد بجامعة برنستون وسلمى الشامي، مديرة البحث في الباروميتر العربي ومارك تيسلر المؤسس المشارك والباحث الرئيسي المشارك في الباروميتر العربي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ميتشغان.