نشرت صحيفة "
نيويورك تايمز" الأمريكية مقالا، تحدثت فيه عن قانون النسبية في دولة الاحتلال، وتحليل تأثيره على قواعد الحرب الدولية، مبينة أن القانون يسعى للتقليل من القتلى المدنيين خلال النزاعات، لكنه أثار جدلا حول مدى تطابقه مع القوانين الدولية.
واعتبرت الصحيفة في المقال الذي ترجمته "عربي21"، أن القوانين الدولية التي تحكم الحرب عديمة الشعور؛ حيث تعطي الأولوية للميزة العسكرية أكثر من الضرر الذي يلحق بالمدنيين. ولا يأخذون في الاعتبار أعدادا مقارنة للقتلى أو الجرحى، ويطلبون من القادة في الميدان أن يحكموا، وبسرعة كبيرة في كثير من الأحيان، على الميزة العسكرية للهجوم، وطبيعة التهديد الذي يواجهونه، وما هي الوسائل التي يمتلكونها لمواجهته، وما هي التدابير الممكنة التي يمكنهم اتخاذها للحد من الأضرار المتوقعة على المدنيين والنازحين والبنية التحتية المدنية.
وأوضحت الصحيفة أن المحامين يقولون إن هذه الحسابات المعقدة، والمعروفة باسم "التناسب"، معيبة للغاية، لأنها توازن بين أشياء غير متوافقة بشكل أساسي. ويجب الحكم على كل هجوم على حدة، لتحديد ما إذا كان ضمن حدود العمل القانوني للحرب.
ونقلت الصحيفة عن إيمانويلا كيارا جيلارد، الزميلة المشاركة في تشاتام هاوس، مركز الأبحاث اللندني، التي عملت سابقا كمحامية للصليب الأحمر والأمم المتحدة، قولها "إن قانون الحرب بارد"، وهو لا "يعالج مخاوفنا وغضبنا الأخلاقي بشأن مقتل المدنيين".
وأفادت الصحيفة بأن صور الدمار في
غزة التي بثتها شاشات التلفزيون والتفاوت الكبير في أعداد القتلى الفلسطينيين والإسرائيليين، وخاصة بين المدنيين، أثارت ضجة كبيرة في العالم العربي وأجزاء من الغرب.
وشددت الصحيفة على أنه في الحرب لا يوجد علاقة بين التماثل والتناسب، مبينة أن التناسب عنصر أساسي في تحديد شرعية العمل الحربي؛ حيث أوضح المحامون أن الأمر لا يتعلق فقط بالموازنة العادلة لعدد القتلى على جانبي الصراع. وبدلًا من ذلك، فإن الأمر يتعلق بتحديد ما إذا كانت الميزة العسكرية المتوقعة، في لحظة اتخاذ قرار شن أي هجوم، تفوق الضرر المتوقع على المدنيين بمجرد اتخاذ التدابير الممكنة للحد منه.
وأشارت الصحيفة إلى أنه لا يوجد إجماع عالمي حول كيفية إجراء مثل هذه المقارنة، كما أن الحقائق ليست واضحة دائمًا في ضباب الحرب.
وأضافت الصحيفة أن هناك انتقادات وأسئلة، على سبيل المثال، حول الهجمات الإسرائيلية بالقرب من المستشفيات والمدارس أو عليها. هل كانت المباني تُستخدم بالفعل لأغراض عسكرية، وهل تم تقديم التحذيرات المناسبة قبل الهجوم؟ هل فعلت "إسرائيل" ما يكفي لحماية المدنيين؟.
وبينت الصحيفة أن عدد كبير من الدبلوماسيين ومسؤولي الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان جادلوا بأن الإجابة هي "لا"، ودعا البعض إلى إجراء تحقيقات في جرائم الحرب المحتملة، بل واستخدموا كلمة الإبادة الجماعية.
ونقلت الصحيفة تصريحات دانييل رايزنر، الرئيس السابق لقسم القانون الدولي بجيش الاحتلال، التي قال فيها إن مقتل المدنيين هو مسألة سياسية وليست قانونية، مضيفا "أن أعداد القتلى من كلا الجانبين مأساوية، ولكن إذا قصرت المناقشة على الشرعية، فإن الأرقام ليست هي الشيء الذي يمكن قياسه. إنه سبب وفاتهم وفي أي ظروف ماتوا، وليس عدد الأشخاص الذين ماتوا".
وقارنت الصحيفة بين أعداد القتلى من الجانبين؛ حيث أعلنت دولة الاحتلال عن مقتل حوالي 1200 شخص قتلوا وتم احتجاز 240 آخرين كرهائن في هجمات
حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بينما تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة حتى اليوم في استشهاد أكثر من 15 ألف فلسطيني، وربما آلاف آخرين، كثير منهم من النساء والأطفال، وفقا لمسؤولي الصحة الفلسطينيين.
وذكرت الصحيفة أن الأعداد الكبيرة من القتلى المدنيين، أكثر من أي صراع سابق في غزة، تثير في مجملها تساؤلات حول ما إذا كانت حسابات إسرائيل للتناسب قد تغيرت في هذه الحرب.
ولفتت الصحيفة إلى أن هناك أسئلة مثارة حول هجمات معينة، مثل القصف الذي استمر يومين على مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة في 31 تشرين الأول/ أكتوبر والأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، والذي أدى إلى انهيار عدد كبير من المباني السكنية ومقتل 195 شخصًا، وفقًا لمسؤولي الصحة في غزة.
وأشارت الصحيفة إلى أن "إسرائيل" قالت إنها حذرت السكان بضرورة المغادرة، وإنها تستهدف بذلك إبراهيم بياري، قائد كتيبة جباليا المركزية، الذي ساعد في التخطيط لهجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر وكان يشرف على القتال، ومحمد عصار، الذي يقال إنه قائد وحدة الصواريخ المضادة للدبابات التابعة لحماس.
وبحسب الصحيفة؛ قال دانييل هاغاري، المتحدث باسم جيش الاحتلال، إن بياري كان يقود وحدة كبيرة تابعة لحماس تستخدم نظام أنفاق واسع النطاق تحت مباني المعسكر، والذي استهدفته "إسرائيل" أيضا، وأن "العشرات" من مقاتلي حماس قتلوا. وأشار مسؤولون إسرائيليون إلى أن شبكة الأنفاق قوضت استقرار الأساسات، وأن القنابل والانفجارات الثانوية دمرت المباني السكنية، ولكن هل أخذت إسرائيل ذلك في الاعتبار بالكامل؟.
وأضافت الصحيفة أن مسؤولي الأمن الإسرائيليين يصرون على أن معاييرهم الخاصة بالتناسب ظلت ثابتة في هذا الصراع؛ حيث زعموا أن هناك محامين في كل وحدة عسكرية تقريبا تحت الطلب على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، لمراجعة قانونية كل ضربة. وفي كثير من الأحيان؛ يقدم المحامون في الوقت الحقيقي المشورة للقادة حول شرعية الأهداف والأسلحة التي سيتم استخدامها. كما يقومون بتقييم جهود الجيش لتحذير المدنيين والأضرار المقدرة التي لحقت بغير المقاتلين، وإذا رأى المحامون أن القصف غير قانوني، فيجب على القادة الميدانيين إلغاؤه.
وقالت الصحيفة إن المسؤولين الإسرائيليين، الذين تحدثوا دون الكشف عن هويتهم بموجب القواعد العسكرية، اعترفوا بأن حجم ونطاق العمليات في غزة أكبر بكثير مما كان عليه في الماضي. وأضافوا أن الأهداف التي لم تكن تعتبر ذات قيمة كافية لتبرير المخاطر التي يتعرض لها المدنيون في المناوشات الأقل خطورة يتم قصفها الآن، وتشمل هذه المساكن الخاصة والمباني العامة، مثل برلمان غزة والجامعة الإسلامية.
وأفادت الصحيفة أن المسؤولين العسكريين الإسرائيليين يشعرون بالإحباط لأن المنتقدين لا يرون أن هذه الحرب تُشن لضمان وجود "إسرائيل"، بل يتم خوضها ضمن نص القانون الدولي.
وأوضحت الصحيفة أنهم يشتكون من أن وجهة نظر العالم أحادية الجانب، ويتهمون حماس بتعمد زيادة الضحايا المدنيين واستغلال جهود "إسرائيل" لاحترام القانون باستخدام المواقع المدنية لشن الهجمات وإخفاء المقاتلين.
وأشارت الصحيفة إلى أن المسؤولين يدركون مدى الضرر الذي تسببه الحرب لسمعتهم، والضغط الشعبي الذي تشعر به الحكومات المتحالفة لوضع نهاية سريعة لأعمال القتل، لكنهم يزعمون أنهم يخضعون لمعايير أعلى من مستوى حماس، ويقولون إن حماس انتهكت العديد من قوانين الحرب.
وأوردت الصحيفة على لسان كوردولا دروج، كبيرة المسؤولين القانونيين في اللجنة الدولية للصليب الأحمر إنه مهما كان السبب، إذا اخترت شن الحرب، فلا يزال يتعين عليك احترام نفس قواعد القانون الإنساني الدولي كطرف في النزاع، ولا فرق بين تصرفك دفاعاً عن النفس أو تسمية نفسك حركة تحرير، فالقانون الدولي الإنساني يحمي ضحايا النزاع المسلح، بغض النظر عن الجانب الذي ينتمون إليه.
وأكدت الصحيفة على أنه رغم كون الحرب فوضوية ومميتة، فإن لها مجموعة من القواعد المقننة، ومن أهمها "التناسب" و"التمييز"، وهناك عنصران يحددان التناسب، الأول هو شرعية الحملة الشاملة، والتي يجب أن تتوافق مع حجم التهديد.
أما العنصر الثاني من حيث تناسب الحكم على كل هجوم بناءً على أسسه الموضوعية، سواء كان قصفًا مخططًا مسبقًا لهدف أو قرارًا سريعًا للقائد أثناء معركة بالأسلحة النارية، وهو أكثر تعقيدًا.
ونوهت الصحيفة على أهمية تعريف التناسب على أنه مسألة حكم في اللحظة الراهنة، وليس بعد فوات الأوان، مع طرح السؤال: هل الخطر المحتمل على المدنيين مفرط مقارنة بالميزة العسكرية المتوقعة؟ لأن المخاطر المدنية أمر مسلم به ويجب ألا تكون "مفرطة".
وأضافت الصحيفة أن المبدأ القانوني الرئيسي الآخر هو "التمييز"، هل سعى الجيش إلى التمييز، بحيث يضرب الأهداف العسكرية والمقاتلين فقط بينما يحاول تجنب إيذاء المدنيين؟ إن التوصل إلى هذه الحقيقة يتطلب تحقيقاً لا يمكن إنجازه بينما يحتدم القتال، ومثل هذه الأحكام تصبح صعبة بشكل خاص في حرب العصابات في المناطق الحضرية.
ويوافق عمر شاكر، مدير مكتب هيومن رايتس ووتش في "إسرائيل" وفلسطين، على أنه من الصعب تقييم التناسب دون بحث واقعي مفصل، لكنه يرى أن العدد الإجمالي للوفيات بين المدنيين، واستخدام الأسلحة القوية في الأحياء المكتظة بالسكان، والهجمات على المستشفيات التي يلجأ إليها المدنيون "تثير تساؤلات جدية" حول ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جرائم حرب.
وبحسب السيد شاكر: "عندما نرى استخدام الكثير من المتفجرات شديدة الانفجار في المناطق السكنية المكتظة، مثل مخيمات اللاجئين، فإن ذلك يثير مسألة التناسب بالنظر إلى المخاطر المتوقعة، فالضربات واسعة النطاق مثل تلك التي تعرضت لها جباليا هي رمز لممارسة إسرائيلية تتمثل في استخدام قنابل ثقيلة للغاية في المناطق المكتظة بالسكان، مما يظهر الاستخفاف بحياة الفلسطينيين".
وتابعت الصحيفة نقلًا عنه إنه بينما يقع على عاتق إسرائيل واجب محاولة إجلاء المواطنين "فإنه غالبًا ما يفترض بأنه عند إصدار أوامر الإخلاء، فإن كل من يبقى هو هدف، لا يمكنك التعامل مع مخيمات اللاجئين كمناطق لإطلاق النار الحر".
ووفق السيدة دروج، فإن ما يهم ليس عملية الإخلاء نفسها، بل "الظروف المحيطة بها".
وأضافت إنه منذ بداية الحرب، كان هناك "حصار على قطاع غزة بأكمله، ما يعني أن السكان كانوا وما زالوا محرومين في الأصل من الغذاء والماء والوقود والكهرباء والإمدادات الطبية، وحرمان السكان المدنيين بالكامل من السلع الأساسية لبقائهم على قيد الحياة لا نعتبره متوافقًا مع القانون الإنساني الدولي".
وأفادت الصحيفة بأن هناك مسألة مستشفيات غزة، التي تقول "إسرائيل" إن حماس تستخدمها لأغراض عسكرية؛ حيث تعتبر المستشفيات مواقع محمية بشكل خاص بموجب القانون، ويقع عبء إثبات أن حماس جعلتها أهدافا عسكرية مشروعة على عاتق إسرائيل، الذين ليس لدى مسؤوليها أي شك في هذه القضية.
واختتمت الصحيفة التقرير بقول السيد رايزنر، المحامي العسكري الإسرائيلي السابق، "إن قاعدة التناسب هي قاعدة سيئة للغاية، لأنه لا يوجد مقياس يمكن أن يكون القاسم المشترك لحساب الميزة العسكرية مقابل الضرر المدني"، مضيفا أنه "لا يوجد أحد يعرف كيفية القيام بهذه المعادلة، لكن من الأفضل أن يكون لديك قاعدة سيئة بدلا من عدم وجود قاعدة على الإطلاق".