من بين الدروس الكثيرة التي علمنا إياها فرانز فانون هو أن «النظام الاستعماري يستمد مشروعيته من القوة» وحدها دون تأويل، وأنه (أي الاستعمار) «ليس آلة مفكرة، ليس جسما مزودا بعقل، وإنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى» وأن التحرر منه «يجب أن يتم بالقوة، ولا يمكن أن يتم إلا بالقوة» بل كانت له دروس أخرى عديدة؛ بينها حديثه عن تجريد المستعمَر (بفتح الميم) من إنسانيته حتى لتعده حيوانا عبر استخدام اللغة المستعملة في وصف الحيوانات، بوصف اللغة أداة منهجية من أدوات الاستعمار، وهو ما كتبه قبل 62 عاما في كتابه «معذبو الأرض» أي قبل أن نسمع وزير الدفاع الإسرائيلي يصف سكان
غزة أنهم «حيوانات بشرية» وقد وصف نتنياهو، قبل ذلك، أيضا،
الفلسطينيين، خلال مؤتمر للدبلوماسيين الأجانب الذي عقد في القدس عام 2015، بالحيوانات حيث قال نصا: «توجد حيوانات متوحشة من المسلمين في مدننا، وعندما تفهم القوى الحضارية خطورة المشكلة، لن يتبقى أمامها إلا التوحد بشكل واضح وهزم هذه الحيوانات» وبالتالي لم يكن ما قاله وزير دفاع
الاحتلال، مجرد رد فعل على زلزال 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بل هو يعكس خصيصة من خصائص الاستعمار/ الاحتلال.
فتجريد المستعمَر من إنسانيته مقدمة ضرورية للتعاطي مع أي فعل غير قانوني وغير أخلاقي ضده، وتكريس فكرة أنه «روح الشر وخلاصته» أو الشر المطلق الذي «يحطم كل ما يقابله، عنصر مخرب يشوه كل ما له صلة بالجمال أو الأخلاق، إنه مستودع قوة شيطانية، إنه أداة لقوى عمياء، أداة لا وعي ولا سبيل لإصلاحها» لذلك سيكون مواجهة هذا الشر وإبادته ليس ضروريا فقط، بل واجب أيضا على «الخير المحض» الذي يمثله المستعمِر!
ويتحدث فانون أيضا عن دور «المثقفين» الذين يتبعون المستعمِر (بكسر الميم) على مستوى العموميات المجردة، ويرون أن «الماهيات تبقى خالدة رغم جميع الأخطاء التي تنسب إلى البشر» والذين يتبنون « مقولة «اللا عنف» التي هي «أحد مبتكرات الدفاع الاستعماري، ويتحدثون عن إمكانية «تسوية المسألة الاستعمارية» عبر مائدة المفاوضات، ويتبرأون من «الإرهابيين» و «الذباحين» ويقفون «في منطقة محرمة تفصل بين الإرهابيين والمستعمرين» وليس ثمة شك لديهم «أن كل محاولة لتحطيم الاضطهاد الاستعماري بالقوة إنما هو سلوك يأس، سلوك انتحار» دون أن يقدموا، في الواقع، ضمانات على أن دعواهم يمكن أن تصل إلى تسوية عادلة تضمن الاستقلال والحقوق والكرامة!
دروس فانون تبدو غير ذات قيمة، وربما اتهموا صاحبها أنه ضال آخر، عند الكثير من الليبراليين العرب المفترضين الذين يحاكمون «حماس» وفقا لمتبنياتها الفكرية التي يمقتونها، والتي جعلتهم يصابون بمرض عضال سبق لنا أن كتبنا عنه في مقال بعنوان: «الليبراليون العرب: درس في الشيزوفرينيا»؛ فرفضهم للإسلاميين، جعلهم يمجدون الانقلابات التي حصلت في بلدان عربية كثيرة!
تجريد المستعمَر من إنسانيته مقدمة ضرورية للتعاطي مع أي فعل غير قانوني وغير أخلاقي ضده، وتكريس فكرة أنه «روح الشر وخلاصته» أو الشر المطلق الذي يحطم كل ما يقابله
فهم لا يرون في حماس سوى كونها «تنظيما إسلاميا» متطرفا، بل يتبنون تماما مساواتها بداعش، لينفوا عنها صفة المقاومة والكفاح المسلح (الشرعي بموجب القانون الدولي) ويرون أنها تقاتل دفاعا عن الأيديولوجيا التي تؤمن بها وليس عن الوطن المحتل! ويتعكز هؤلاء غالبا على ميثاق الحركة الصادر عام 1988 لإثبات أنها منظمة «جهادية» وليست حركة تحرر وطني، لأنها لا تعترف بحدود إسرائيل، ويتغافلون، عن عمد، أن الحركة قد قبلت عام 2017، وبشكل صريح ومعلن، بحدود عام 1967، ويتغافلون، أيضا، على حقيقة أنه لا وجود من الأصل، لحدود إسرائيلية معترف بها دوليا حتى اللحظة! فإسرائيل حصلت على الاعتراف الدولي عام 1948 بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 ضمن حدود التقسيم، لكنها استولت على أراض أخرى عام 1948 وضمتها إليها دون اعتراف دولي، ثم استولت على أخرى عام 1967 وضمت بعضها إليها رسميا، كما هو الحال مع القدس الشرقية، فيما تقوم بقضم أراضي الضفة الغربية، عبر المستوطنات، وتصر أنها شرعية!
نشر أحد مشايخ الليبراليين العرب، مجموعة مقالات بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر، تحدث فيها عن «الطبيعة الرثة» لسلطة حماس التي خاضت حربا دون أن توفر للغزاويين أيا من شروط الحرب «فهي لم تبن ملاجئ وتحصينات، وهذا رغم أنها السلطة الوحيدة هناك من 2007» وأنه لم «يكن هناك أي إعداد اقتصادي» لينتهي إلى الاستنتاج بأن حماس «لا تقيم للمدنيين، الفلسطينيين قبل الإسرائيليين، أي وزن»!
ويردف بأن «العقل والمعرفة والتجربة ينبغي أن تغري صاحبها بالانسحاب من القوة مرة وإلى الأبد» وأنه «آن أوان الفصل بين طلب الحق والعدالة وطلب الانتحار، والسعي وراء وسائل غير القوة وغير «فش الخلق» في طلب العدالة والحق» وأن «طوفان الأقصى كان الشكل الوحيد من المقاومة الذي ينبغي ألا يحصل، وألا يهلل له» وهو يتبنى السردية الإسرائيلية بطبيعة الحال، فيما يخص أن حماس خاضت حربا «بدأتها بقتل المدنيين وخطفهم»! و«إن المشكلة الفلسطينية لا تحل إلا سياسيا، ومن خلال إقامة دولة للشعب الفلسطيني»
لكنه يتدارك بأن هذ الحل بات مستحيلا من المستحيلات، ويضيف أن «الكلام السياسي عن تسوية تنصف الفلسطينيين، بعد طوفان الأقصى، سوف يغدو أشبه بطوفان الأوهام والنوايا الحسنة والمضجرة في وقت واحد» وهو ما يعني أن على الفلسطينيين أن يتعلموا السياسة، ويستمروا في ممارستها بدلا عن العنف، بوصفها غاية في حد ذاتها، وليس أداةً من أجل الوصول إلى أهدافهم! لكنه يتراجع في مقالة لاحقة عن فتواه العدمية هذه وينقحها بأخرى مستمدة من «طوفان الأوهام والنوايا الحسنة المضجرة» الذي ذكره قبل هذا، مفادها أنه «فقط بالعودة إلى السياسة والتسويات يمكن أن يكون للشرق الأوسط مستقبل، فيقرُّ الإسرائيليون بحتمية الدولة الفلسطينية المستقلة، ويقر الفلسطينيون والعرب بنهائية إسرائيل» ببساطة!
لكن المشكلة الحقيقية تبقى مرة أخرى في العرب المولعين بتحويل القضايا المحقة إلى «فراغ التجريد والتقديس اللفظي» وفي «هيجان الثقافة العربية» التي «أغلقت كل الممرات الممكنة إلى السياسة»!
لا تكمن مشكلة الليبراليين العرب في تغييب التاريخ وتحييد السياقات ونسيان المقدمات الضرورية، وفي مراوغة الحقائق والوقائع وتحريفها، ولا تكمن أيضا فيما سمّاه فانون بالتعميمات المجردة والماهيات الخالدة وحسب، بل تكمن أيضا، في فقدان الحس الإنساني السليم نفسه، قبل أيّ شيء!