إن نجاح حزب العدالة والتنمية في ترؤس الحكومة لولايتين تشريعيتين
كاملتين، لا يعني بالضرورة نجاحه في تطبيق برنامجه الإصلاحي ولا يعني أن تجربته
الحكومية كانت خالية من الأخطاء، فبغض النظر عن المحددات الماكروسياسية التي تتحكم
في الحياة السياسية
المغربية، والتي سبقت الإشارة إليها في مقالات سابقة، وهي
المحددات التي تجعل الزمن الحزبي والحكومي محكوم باعتبارات دستورية ومؤسساتية
بعضها صريح وبعضها ضمني، أسهمت ولازالت في تقليص مساحة اتخاذ القرار أمام الفاعل
الحكومي وحصرت نشاطه في دوائر محددة بعيدة عن القرارات الاستراتيجية التي تبقى من
اختصاص المؤسسة الملكية، لكن مع ذلك، فإن
التقييم الموضوعي يستلزم تسليط الضوء على
بعض الملامح التي ميزت تجربة حزب العدالة والتنمية في السلطة لمدة عشر سنوات،
انطلاقا من تساؤل منهجي واضح: أين نجحت التجربة وأين أخفقت؟
الفرضية الأساسية التي سنحاول تأكيدها من خلال هذا التمرين هي أن حزب
العدالة والتنمية نجح في ضخ جرعات أخلاقية في الحياة السياسية مع الاهتمام ببعض
الإصلاحات الاقتصادية الظرفية وفشل في الإصلاح السياسي والمؤسساتي الذي يعني في
النهاية إصلاح مؤسسات الدولة وتكييف وظائفها بما ينسجم مع فلسفة النظام
الديمقراطي.
الدفاع عن الأخلاق في السياسة من خلال الترويج لثقافة سياسية جديدة..
نجحت التجربة الحكومية لحزب العدالة والتنمية في الترويج لثقافة
سياسية جديدة داخل المجتمع وبين النخب السياسية التي اعتادت على ممارسة السياسة
انطلاقا من مفاهيم سياسية رائجة في الأوساط الشعبية مفادها أن مواقع السلطة مرتبطة
بخدمة أغراض الجاه المفيد للمال ومراكمة الثروة.
لقد عاش معظم السياسيين في خصام نظري وعملي مع الأخلاق ومراقبة الذات
واستسهال "الغنيمة" المحصل عليها بطرق غير مشروعة.
هذا الخصام لم يكن إلا أحد تعبيرات علاقة السياسيين بالسلطة، خاصة في
ظل نهج سياسي كان يخاصم بدوره مفهوم الديمقراطية ولم يربط المسؤولية بالمحاسبة
واستسلم للأساليب السلطوية في
الحكم، ولم تكن الاستثناءات القليلة التي مرت في
دواليب السلطة إلا تأكيدا لقاعدة استبعاد الأخلاق من الممارسة السياسية.
نجحت التجربة الحكومية لحزب العدالة والتنمية في الترويج لثقافة سياسية جديدة داخل المجتمع وبين النخب السياسية التي اعتادت على ممارسة السياسة انطلاقا من مفاهيم سياسية رائجة في الأوساط الشعبية مفادها أن مواقع السلطة مرتبطة بخدمة أغراض الجاه المفيد للمال ومراكمة الثروة.
لقد ساهمت التدخلات الشهرية لعبد الإله بنكيران باعتباره رئيسا
للحكومة خلال الفترة الفاصلة بين 2012 و2016 في الدفاع عن المنظور الأخلاقي في
السياسة، وفي ربط الممارسة السياسية اليومية بالمرجعية الإسلامية كمرجعية أخلاقية
ينبغي الاحتكام إليها والانضباط لتعاليمها كشرط ضروري للنجاح في مسيرة الإصلاح
وتحرير الممارسة السياسية من معاني الارتزاق والاستثمار في السياسة، ومن أراد جمع
المال فعليه الابتعاد عن السياسة واللجوء إلى التجارة والفلاحة وغيرها من المهن
المدرة للربح..
لقد مثلت خطابات بنكيران إعلانا صريحا عن نوايا جادة لاسترجاع المعنى
النبيل للسياسة المتمثل في خدمة الناس والعمل على إصلاح معاشهم اليومي، وهو ما سمح
للشعب ب"اكتشاف" طينة جديدة من المسؤولين يمتلكون الجرأة على قول عبارات
غير معهودة في التداول السياسي العام، والإسهام في بناء علاقة جديدة بين المواطن
والسياسة قائمة على الثقة، وإعلان المغايرة والاختلاف على نماذج من السياسيين
أفسدوا المفهوم النبيل للسياسة، وساهموا في تعميق الهوة بين المواطنين ومؤسساتهم
التمثيلية.
إن الثقافة السياسية التي سعى رئيس الحكومة إلى تأصيلها هي أن مصالحة
المواطن مع السياسة وتحقيق التنمية المطلوبة والنجاح في تنزيل مضامين البرنامج
الحكومي لا يمكن أن ينجح إلا بتوفر إرادة قوية تقطع مع التطبيع مع الفساد واستغلال
النفوذ لخدمة أغراض خاصة، ذلك أن إرادة محاربة الفساد ونهج حكامة جيدة وترشيد
الإنفاق العام لا يمكن أن تبلغ مداها بالتستر على أمراض السياسيين وسكوتهم على نقد
بعضهم البعض.
لقد حاول الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية أن يراهن على تغيير
العقليات والتحرر من الثقافة السياسية السائدة ووضع البلاد على سكة ثقافة سياسية
جديدة عنوانها الكبير أنه يمكن ممارسة السياسة بالموازاة مع أخلاق الصدق
والاستقامة والتعفف عن المال العام.
ومن مظاهر هذا التغيير، هو أن نقد الممارسات الخاطئة ليس منحصرا في
نقد مسلكيات السلطة فقط، ولكن ينبغي توجيه النقد أيضا للمجتمع والتنبيه لأخطائه
أيضا، فلا يمكن محاربة الفساد بدون انخراط المواطن وتعاونه الكامل مع السلطة للضرب
على يد الفاسدين والمفسدين.
إن أي ضعف انخراط المواطن/ الفرد في مشاريع الإصلاح يمثل إعاقة مزمنة
للديمقراطية التي لا يمكن أن تقوم إلا على أساس تغيير ثقافة المواطن وتحريره من
مسلسل الإحباطات والهزائم النفسية التي وقع ضحية لها بفعل خيبات الأمل المتكررة في
النخب السياسية التي تحملت مسؤولية تدبير الشأن العام، ولم تحقق ما كان منتظرا
منها، ولم تصارح الرأي العام بأسباب فشلها ولم تصدح بالعوائق الحقيقية التي اعترضت
طريقها، مخلفة وراءها العديد من الأسئلة والاستفهامات ذات الطبيعة الفكرية
والسياسية والأخلاقية..
والأخطر من ذلك أنها أنتجت عقلية سلبية
لدى المواطن مستسلمة أمام الواقع الفاسد ولا تؤمن بإمكانية تغييره..
لقد عكست نسبة المتابعة الشعبية الواسعة لخطابات رئيس الحكومة الأسبق
عبد الإله بنكيران حجم الخصاص الموجود لدى الفئات الشعبية في فهم تعقيدات السياسات
العمومية، وحاجة البلاد إلى تقاليد جديدة في التواصل السياسي لبناء الثقة بين
المواطن والمؤسسات السياسية، والارتقاء بالوعي السياسي المجتمعي إلى المستوى الذي
يفهم به القرارات السياسية ويتفهم التعقيدات التي تحيط بالمجال السياسي.
لقد نجح عبد الإله بنكيران بخطابه المبسط في جذب انتباه فئات جديدة
إلى السياسة، ونجح في كسب شعبية كبيرة جرى استثمارها بشكل نسبي للقيام ببعض
الإصلاحات التي تخدم التوازنات المالية للدولة وبعض القرارات ذات الطبيعة
الاجتماعية التي استهدفت بعض الفئات المهمشة.
إصلاحات اقتصادية واجتماعية مهمة لم توازها إصلاحات سياسية عميقة..
ليس من أغراض هذه المقالة، وليس في وسعها أن تستعرض الحصيلة
الاقتصادية لحكومة عبد الإله بنكيران، ولكنها منشغلة أساسا بإبراز بعض القرارات النوعية التي اعتبرت
قرارات شجاعة في وقتها وأبانت أن الحزب استثمر شعبيته في تلك المرحلة لخدمة بعض
القرارات التي تعود بالنفع على موازنة الدولة أساسا بما يعني أن الحزب في أول
مشاركة له على مستوى السلطة، تصرف بما تمليه مستلزمات الاشتغال في إطار مؤسسات
الدولة ومراعاة مصالحها الحيوية بعيدا عن أطروحة الحزب الأساسية في الإصلاح التي
كانت تركز على الإصلاح الديموقراطي باعتباره مدخلا ضروريا للتنمية الاجتماعية
والاقتصادية.
لكن من المفيد التذكير في هذا السياق بأن الحكومة تشكلت في ظل ظروف
وأوضاع صعبة مطبوعة باحتجاجات دينماية 20 فبراير التي استمرت طيلة سنة 2012
تقريبا، ورفضت التصويت على الدستور الجديد بالإيجاب، كما تميزت الحياة اليومية
بانتشار بعض الظواهر من قبيل تنامي حالات احتلال الأملاك العمومية وتوسع حركة
الإضرابات القطاعية العشوائية والمتكررة في مجالات حيوية، مثل المستشفيات والمدارس
والمحاكم والجماعات المحلية، مما أدى إلى تعطيل خدمات ومرافق عمومية أساسية، وإلى
تأخير مصالح المواطنين بشكل حاد وإضعاف ثقة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين.
لقد نجح عبد الإله بنكيران بخطابه المبسط في جذب انتباه فئات جديدة إلى السياسة، ونجح في كسب شعبية كبيرة جرى استثمارها بشكل نسبي للقيام ببعض الإصلاحات التي تخدم التوازنات المالية للدولة وبعض القرارات ذات الطبيعة الاجتماعية التي استهدفت بعض الفئات المهمشة.
مع ظهور حالة من التوجس إزاء المستقبل والتشكيك في قدرة الحكومة
الجديدة التي يقودها حزب بدون تجربة سابقة في التسيير العمومي، على استعادة
الاستقرار الاجتماعي وصيانة "هيبة الدولة" وتدعيم الثقة في مسار الإصلاح
في إطار الاستقرار.
كما كانت الوضعية الاقتصادية تعرف اختلالات كبيرة للتوازنات الماكرو-اقتصادية،
حيث جاوز عجز الميزانية 7% من الناتج الداخلي الخام و تفاقم عجز الحساب الجاري
لميزان الأداءات الذي ناهز 10% من الناتج الداخلي الخام، بالموازاة مع تدهور مستوى
الاحتياطيات من العملة الصعبة.
في هذه الظروف، برزت أولوية إصلاح منظومة المقاصة (الدعم العمومي)
بحيث كانت نفقات الدعم الذي يوفره صندوق المقاصة تناهز ,97 مليار درهم سنة 2004،
لتنتقل إلى 56 مليار درهم سنة 2012 (سنة
تشكيل الحكومة)، أي ما يعادل أزيد من 5 مليار و300 ألف دولار، ضمنها 48 مليار درهم
(أزيد من 4 مليار دولار ونصف) لدعم المواد النفطية. وهو ما أدى إلى تفاقم عجز
ميزانية الدولة من 2,2% من الناتج الداخلي الخام سنة 2009 إلى أكثر من 7% سنة 2012
حسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات (هيئة عليا للرقابة المالية) حول منظومة المقاصة
بالمغرب صدر في يناير 2014، وهو ما تترتب عنه مضاعفات تزيد من هشاشة الإطار الماكرو
اقتصادي وتقلص من هامش الميزانية خاصة في مجال الاستثمار، كما تشكل مخاطر على
النمو الاقتصادي والتشغيل بحسب نفس التقرير.
وهكذا، أدت تكاليف المقاصة إلى تفاقم عجز الميزانية والميزان التجاري
والحسابات الخارجية، بالإضافة إلى بعض المشاكل المتعلقة بحكامة الصندوق الذي لا
يتوفر على قاعدة للمعطيات حول شركائه على مستوى المعاملات المالية الأساسية
كالحسابات السنوية وتقارير مدققي الحسابات لهؤلاء المتعاملين رغم عددهم المحدود.
هذا التشخيص دفع بالحكومة إلى وضع أهداف لإصلاح منظومة المقاصة، من
قبيل: إرساء الحكامة الجيدة والقطع النهائي مع الريع النفطي، بحيث كشف رئيس
الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، أن من الأسباب التي دفعته لإصلاح صندوق المقاصة
وإلغاء الدعم الخاص بالمحروقات، وبالتالي تحرير قطاع المحروقات، أن شركات
المحروقات كانت تتقدم لصندوق المقاصة بفاتورات عن كميات الوقود المستورد لتستفيد
من دعم الدولة، دون أن تكون لصندوق المقاصة أي إمكانيات للتأكد من صحة الكميات
المستوردة، وهو ما جعل الدعم يتحول إلى ريع نفطي تستفيد منه شركات المحروقات، مما
استلزم العمل على إنهاء الفوارق الكبيرة في الاستفادة من منظومة المقاصة واستعادة
وضبط التوزانات الماكرواقتصادية وتوفير التمويلات اللازمة للاستثمار العمومي
والسياسات والبرامج الاجتماعية والاقتصادية وإنهاء الفوارق في الاستفادة من
المنظومة (حيث كانت 20 في المائة من الأسر الأكثر فقرا تستفيد من 9 في المائة فقط من نفقات الدعم و20
في المائة من الأسر الميسورة تستفيد من 43 في المائة من نفقات الدعم).
وهو ما نجحت الحكومة في إصلاحه، وذلك بتحرير قطاع المحروقات ووقف دعم
النفط مما وفر على الميزانية العامة للدولة أزيد من 40 مليار درهم سنويا (4 مليار
دولار)، تم توجيهها للاستثمار العمومي ولتغطية نفقات بعض البرامج الاجتماعية من
قبيل تخصيص دعم مباشر للنساء الأرامل والزيادة في منح الطلبة، وهي قرارات رمزية لم
تنجح في التخفيف من الفوارق الاجتماعية الصارخة في المغرب.
لكن منظومة الدعم ستكشف فيما بعد عن وجود ثغرات خطيرة سمحت باستمرار
الدعم العمومي الخاص بالغاز وهو ما وصل في حدود هذه السنة 2023 إلى أزيد من 40
مليار درهم سنويا ( أي ما يعادل5 مليار
دولار تقريبا)، بالإضافة إلى خضوع الدعم لسعر الاستيراد العالمي وعدم خضوعه لأي
سقف حسب ما تسمح به ميزانية الدولة.
والخلاصة الرئيسية:
لقد لعبت شخصية عبد الإله بنكيران دورا مركزيا في صياغة ملامح هذه
التجربة عبر التركيز على خطاب تواصلي قوي ساهم في الرفع من شعبية الحزب من جهة،
وهي الشعبية التي تأكدت خلال الانتخابات البلدية ل 4 شتنبر 2015 والانتخابات
التشريعية ل7 أكتوبر 2016 ، لكن لم يتم استثمارها من أجل خلق تعبئة وطنية قوية
لتجاوز معوقات الإصلاح (سأخصص مقالة لتحليل ما سمي بالبلوكاج الحكومي بعد انتخابات
2016، وتعثر تشكيل حكومة بنكيران الثانية)، كما أنه ساهم من جهة أخرى في مضاعفة حجم الانتظارات والآمال العريضة لدى فئات
واسعة من المواطنين، وهو ما زاد من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق حزب العدالة
والتنمية، في ظل محدودية الإطار السياسي والمؤسساتي الذي يشتغل في إطاره..
في الحلقة القادمة نتابع تقييم التجربة.