أشدّ ما تبتلى به النخب السياسية، سواء في الحكم أو
المعارضة، هو
التعويل على الخارج، والرهان على "دور أجنبي"، أو "ضغط
خارجي"، لتحقيق أهداف "وطنية"، أو إحداث تحول سياسي عميق، يؤسس
للديمقراطية، ودولة القانون والمؤسسات، ويمهّد للتداول السلمي على السلطة..
وإذا كان من الطبيعي، أن تلجأ الحكومات والدول إلى
"الخارج"، في إطار علاقات الدولة وارتباطاتها الدبلوماسية الرسمية، لطلب
مساعدات أو قروض، أو حتى الدعم السياسي، ضمن لعبة الإقليم والسياقات الدولية
وحساباتها المصلحية، وهو ما تفعله الدول الصغيرة و"العظمى"، كل من موقعه
وحدود تأثيره وقوته وحجمه، فإنّ ما لا يبدو مفهوما البتّة، هو لجوء "المعارضة"
في بلداننا
العربية، إلى "الخارج"، كيفما كان اللجوء، ومهما كانت
مسوّغاته..
هكذا فعلت المعارضة العراقية للرئيس الراحل، صدام حسين، عندما حاولت
بشيعتها وسنتها وعروبييها ويسارها، البحث عن إسقاطه، وإنهاء حكمه الديكتاتوري، عبر
التنسيق، وحتى الارتماء في أحضان "ماما أمريكا"، "الراعية"
للديمقراطية..
وهكذا مضت المعارضة للنظام الليبي السابق (نظام القذافي)، تفعل مع
بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، طورا بطور..
وفي ذات الاتجاه أيضا، فعلت المعارضة السورية لنظام الرئيس بشار
الأسد، الذي يعدّ النظام الأكثر تشريعا وتنفيذا للممارسة الديكتاتورية،
و"الحديقة الخلفية" لديناميكية الاستبداد في العالم العربي منذ ما يقرب
من نصف قرن أو تزيد، أي منذ أن جاء والده، حافظ الأسد للسلطة، بالغصب والقوة.
والأمر ينسحب هنا، على معارضات عربية عديدة، على غرار المعارضة
للنظام المصري (زمن حسني مبارك)، والمعارضات لأنظمة البحرين والمغرب والجزائر،
ولاحقا موريتانيا، وبدرجة أقلّ، الإمارات العربية، وبشكل مختلف، المعارضة للنظام
السعودي، رغم اختلاف الحيثيات والمعطيات والسياقات..
وبنفس الروح أيضا، عمل جزء مهم من المعارضة التونسية، زمن الرئيس
الحبيب بورقيبة، ومن بعده، زين العابدين بن علي، ليستمر الوضع بعد الثورة التونسية
(يناير 2011)، بمكونات أخرى، ضدّ "الترويكا" التي حكمت لثلاث سنوات
(2012 ــ 2014)، وهي ذاتها المعارضة التي تحركت بلا هوادة، ضدّ وجود واستمرار حركة
النهضة في الحكم، قبل أن يستمر نفس الدور لمعارضة تونسية من توليفات أخرى، ضدّ
"انقلاب يوليو" الذي قام به الرئيس قيس سعيّد على الدستور والمؤسسات
ونتائج الانتخابات..
في كل هذه "النسخ" من المعارضة، كان "الخارج"
حاضرا بقوة في أذهان الفاعلين ضدّ الحكم القائم، وفي كل هذه "النماذج"،
كانت الولايات المتحدة، المجال الأنشط للمعارضات التونسية والعربية، ضدّ أنظمة
بلدانها، التي لا يشك اثنان، في علاقتها الحميمة بالاستبداد وثقافته و"مؤسساته"
و"لوبياته"..
الغريب في هذا "السلوك" السياسي للمعارضة التونسية
والعربية برمتها، أمران اثنان مبدئيا:
1 ـ أنها تلجأ للطرف الذي جاء بهذه
الأنظمة، أو رعاها أو ساعدها لعقود، على الاستمرار في الحكم، ما دامت ترعى مصالحه
و"أمنه القومي"، بالمفهوم الأمريكي للكلمة..
فمن جاء بصدّام حسين للسلطة، وكان حليفه ضدّ إيران والثورة الإسلامية
هناك؟ ومن شجّع على توريث الحكم في سوريا، قبيل وفاة حافظ الأسد؟ ومن كان خلف نظام
القذافي، رغم كل تلك العلاقة المتوترة ـ ظاهريا ـ مع الولايات المتحدة والغرب عامة؟
وهل يمكن لباحث أو متابع دقيق، أن يتجرأ على القول بأنّ أنظمة المغرب
والجزائر وموريتانيا ومصر السيسي، جاءت عبر صندوق اقتراع شفاف، وانتخابات نزيهة،
وبإرادة واضحة من شعوب بلدانها؟
ثم من أخرج الرئيس التونسي الراحل، بن علي، من قمقم الاستعلامات
العسكرية، ليدفع به في "الحلبة السياسية" لنظام بورقيبة الآخذ في
الانهيار، ويجعل منه "الخليفة الأول"، لرئيس وضع نفسه في الرئاسة مدى
الحياة، تحت أنظار الولايات المتحدة، داعية الديمقراطية، والمؤسِسة لها في الفضاء
العربي والإسلامي، حسب زعم البعض؟
كيف يدعو "الديمقراطيون" في تونس مثلا، أو ينتظرون، أو يتوقعون، تدخلا أمريكيا لتنحية الرئيس الحالي، والعودة إلى المؤسسات الدستورية الشرعية، والاحتكام لدستور 2014 معدّلا، وإجراء انتخابات سابقة لأوانها، رئاسية وبرلمانية، من شأنها أن تنهي "الانقلاب" الذي مضى على حكمه، أكثر من عامين؟
ألم تزهق أرواح، وتمتلئ معتقلات وسجون هذه الأنظمة، بمعارضيها
ومنتقديها، فيما راعية الديمقراطية (الولايات المتحدة)، تتفرّج بكل الصمت الممكن،
وتكتفي في بعض الأحيان، ببيانات اللوم الشفاهي الناعم، وتعبّر في حالات الضغط التي
تمارسها المنظمات الحقوقية، عن "قلقها"، وربما "انزعاجها"، من
"تدهور أوضاع حقوق الإنسان"، هنا أو هناك.. فيما النظام القائم مستمر..
لأنّ المصالح معه متواصلة، وعلى درجة عالية من الرعاية من هذه الدول والحكومات
والأنظمة المستبدّة، التي أدركت "ماكيناتها"، أنّه طالما ثمة السمع
والطاعة للأمريكان، والتعاون على ذلك بلا هوادة، طالما أنّ النظام يبقى مستمرا ؟؟
نعم، حصلت استثناءات في إسقاط أنظمة (صدام حسين وبن علي والقذافي)،
لكنّ ذلك، لم يكن تلبية لرغبة المعارضات وطموحاتها السياسية، و"منسوب
حبّها" للديمقراطية، بقدر ما كان، استجابة لمصالح بدأت تتعطّل، ومساومات لا
تقبلها الولايات المتحدة ممن وضعتهم على رأس الحكم للتنفيذ، وليس للمجادلة
والتعبير عن موقف حقيقي و"بطولي"..
وهكذا، عندما أصرّ صدام حسين على "غزو" الكويت، كان ما
كان.. وعندما رفض بن علي انفتاحا سياسيا في البلاد، مقابل إغراءات اقتصادية ضخمة
وغير مسبوقة، تقررت نهايته بدم بارد.. وقس على ذلك، الأسماء والعناوين والكيانات
العربية الأخرى، بما في ذلك بعض دول الخليج العربية..
ولذلك، يستغرب المرء من لجوء سياسيين، "ديمقراطيين حتى
النخاع"، للخارج، وأساسا للولايات المتحدة الأمريكية، لطلب
"النجدة"، من هذا "المستبدّ"، هنا أو هناك.. وانتظار
"فعل ما" يمكن أن تضطلع به واشنطن لتغيير معادلة سياسية في هذه البلاد
أو تلك..
وهنا يجد المرء نفسه أمام تساؤلات كثيرة، هي محور النقطة الثانية:
2 ـ كيف يدعو "الديمقراطيون"
في تونس مثلا، أو ينتظرون، أو يتوقعون، تدخلا أمريكيا لتنحية الرئيس الحالي،
والعودة إلى المؤسسات الدستورية الشرعية، والاحتكام لدستور 2014 معدّلا، وإجراء
انتخابات سابقة لأوانها، رئاسية وبرلمانية، من شأنها أن تنهي "الانقلاب"
الذي مضى على حكمه، أكثر من عامين؟؟
هل يمكن للديمقراطية ـ وهنا السؤال الفكري والنظري والسياسي ـ أن
تستقيم بآليات غير ديمقراطية يصنعها "الخارج"؟ هل يمكن القبول بإنهاء
"انقلاب" الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو 2021، بانقلاب
"أمريكي"، بصرف النظر عن
آلياته وطريقة تنفيذه، والجهات التي ستتولى ذلك؟
ما الذي يجعل نخبا، ترفع أصواتها بالديمقراطية منذ أكثر من 40 عاما
في تونس (وفي العالم العربي)، تقبل "انقلابا سياسيا" كما تسميه، على
"انقلاب دستوري"، بات يؤسس ـ فعلا ـ لمرحلة لا علاقة لها بالديمقراطية
وثقافتها وقوانينها ومعاييرها المتعارف عليها في العلوم السياسية؟
لماذا تلجأ المعارضة إلى الولايات المتحدة، أو فرنسا، أو ألمانيا،
وبعضهم إلى دول خليجية أو شرق أوسطية، بحثا عن مخرج للمأزق السياسي الجاثم على
صدرها؟ هل باتت هذه المعارضات عاقرا عن اجتراح حلول أو أشكال نضالية ضاغطة، تتلاءم
مع المرحلة ومقتضياتها؟
وتزداد مشروعية هذه الأسئلة، مع ظهور مؤشرات قوية، تشير إلى أنّ
"انقلاب يوليو" 2021 في تونس، تم بترتيب فرنسي ـ أمريكي، حسب البعض، أو
بموافقة من الإدارة الأمريكية، وفق البعض الآخر.. بل يذهب بعض المعارضين أنفسهم،
إلى أنّ ما جرى، كان جزءا من ترتيب غربي، يهدف إلا إنهاء "مرحلة الإسلام
السياسي" في تونس، بعد أن أجهضت "موديلات" مماثلة في ليبيا ومصر واليمن،
وباتت المسارات الجغرا ـ سياسية، خارج سياق "الربيع العربي" ورهاناته،
وما كان يستهدفه من تغيير سياسي ضمن تلك "الفوضى الخلاقة"، التي بشرت
بها "غوندوليزا رايس"، وزيرة الخارجية السابقة، قبل بضع سنوات من
انتفاضات وهبّات شعوب عديدة في العالم العربي..
ليس هذا وحسب، بل إنّ علاقة العالم العربي بالديمقراطية، لا توجد بها
على مرّ التاريخ العربي والإسلامي، "بصمة أمريكية" البتّة، عدا بعض
الجعجعة السياسية، وتلك التصريحات الرسمية لكبار المسؤولين الأمريكيين، التي كانت
تستخدم للضغط على الأنظمة القائمة، التي أوجدوها، أكثر من الحرص الحقيقي على الدفع
باتجاه تحولات ديمقراطية في المنطقة، ومنها تونس..
لماذا تلجأ المعارضة إلى الولايات المتحدة، أو فرنسا، أو ألمانيا، وبعضهم إلى دول خليجية أو شرق أوسطية، بحثا عن مخرج للمأزق السياسي الجاثم على صدرها؟ هل باتت هذه المعارضات عاقرا عن اجتراح حلول أو أشكال نضالية ضاغطة، تتلاءم مع المرحلة ومقتضياتها؟
ربما يعذر المرء نخبتنا السياسية المعارضة، التي قد تكون أسست حسن
ظنّها بالولايات المتحدة، انطلاقا من التصريحات التي كانت تتحدث عن "الموديل
الديمقراطي التونسي" في العالم العربي، والذي تم استتباعه بدعم مالي هائل، في
شكل دورات تدريبية، وملتقيات سياسية لتعزيز الرؤيا والتصور والمقاربة للمسألة
الديمقراطية، وهو ما توفر فعلا بعيد الثورة التونسية، وإلى حدود العام 2015، من
خلال المساهمة الأمريكية المتنوعة في الاستحقاقات الانتخابية والحكم المحلي وأعمال
البرلمان، وإنجاز التقارير، وعمليات سبر الآراء التي كانت تشتغل على "النمذجة
الديمقراطية" لنخب تونس وشعبها..
لكنّ النوايا وحسن الظنّ، لا يصنعان رؤية، ولا يؤثثان لمقاربة سياسية
للديمقراطية وكيفية ترسيخها، ثقافة وسلوكا..
لقد أكدت التطورات الإفريقية المتتالية، في مالي وبوركينا فاسو،
وآخرها النيجر، أنّ الولايات المتحدة، كان لها باع وذراع ـ كما يقال ـ فيما حصل من
انقلابات عسكرية، أو صدّ بعض المحاولات الانقلابية، في هذه البلدان أو في غيرها من
دول القارة، سواء في إطار حرص الإدارة الأمريكية على استبعاد روسيا والصين،
الزاحفتين نحو "القارة السمراء"، بثقة وبطء شديدين، أو رغبة منها في
إعادة رسم خارطة القارة الإفريقية، بما يضمن مصالحها الإستراتيجية، ولذلك لم تتورع
في "الانقلاب على أنظمة منتخبة، بصرف النظر عما إذا كانت انتخاباتها تستجيب
للمعايير الديمقراطية أو لا..
لقد أخطأت النخب التونسية ـ والعربية أيضا ـ مرتين: مرة عندما أقنعت
نفسها بأنّ الاستحقاق الديمقراطي، "همّا" أمريكيا، ومن ثمّ سيكون الدعم له بلا هوادة، ضدّ أي مسعى للعودة
إلى الاستبداد... ومرة ثانية، عندما أتيح لها "البناء الديمقراطي الوطني"،
في أعقاب ثورة يناير 2011، انكبّت على المعارك الإيديولوجية، والجدل السياسي
العقيم، وحرصت على وضع يدها في أيدي الفاسدين و"فلول" الاستبداد، من
سياسيين ومسئولين سابقين وإعلاميين ومخبرين، ولم تدرك أنّ الديمقراطية ثقافة
وتشريعات وعقلية وسلوكات سياسية، داخل الحكم وخارجه، إلا بعد أن فرطت فيها، ومهّدت
بصراعاتها الممجوجة طيلة 10 سنوات (2011 ـ 2021)، لصعود شخصيات لا حجم ولا مكانة
ولا رؤية لها في المشهد التونسي، تاريخيا وحاضرا..
وهكذا خسرت معركة، ظلت تناضل من أجلها لعقود، في لمح بالبصر، وباتت
اليوم تبحث عن "الأدنى الديمقراطي"، أي ما يتصل بالحريات الأساسية،
وخاصة حرية التعبير والإعلام، بعد أن جربت الديمقراطية، مؤسساتيا، ومن خلال
استحقاقات انتخابية متتالية، شهد العالم بشفافيتها ومصداقيتها، دون أن تتمكن من
الحفاظ عليها، ما سمح لخصومها، المصطفين اليوم خلف "الانقلاب"، بنعت التجربة
بكونها "ديمقراطية شكلانية"، ولعلهم يبدون محقين في ذلك، ولو جزئيا،
لأنّ الديمقراطية التي تنتظر دفعا أو دعما من الخارج، والتي لا تكون بــ
"عقول" تونسية (وعربية) صميمة، أولى لنا أن نذرّيها، ويخلد الديمقراطيون
للصمت، كما قال محمود درويش، مع بعض التصرف في بيته الشعري الممتاز..
مطروح على المعارضات التونسية والعربية، أن "تنتج" برنامجا
سياسيا وطنيا، تكون الآليات الديمقراطية، والتشريعات، والرجال والشخوص الذين
سيتولون بناءها وترسيخها، ديمقراطيون قلبا وقالبا، بعيدا عن "استجداء"
من كانوا سببا في تأخر شعوبنا وتخلفها عن الديمقراطية، من خلال دعمهم للاستبداد،
بكامل الوضوح، ولنا فيما يجري اليوم في مصر السيسي، وجرائم القتل التي يرتكبها ضدّ
معارضيه ومنتقديه، خير دليل على ما نقول..
الديمقراطية، ليست بضاعة للاستيراد، إنما هي في جوهرها، حرية تقرير
المصير، واستقلالية القرار الوطني، ومن كان يرغب في أن يكون بديلا للسيسي في مصر،
أو لقيس سعيّد في تونس، أو لبشار الأسد في سوريا، عليه أن يعيد النظر في مقولة
"الخارج"، وخاصة الولايات المتحدة، التي لم تدعم إلى الآن، أيا من
الديمقراطيات، لا العربية، ولا الآسيوية، ولا الإفريقية، ولا هم يحزنون..
نخشى أن يتمسك معارضونا بهذا الوهم، فيكونون كمن يقبض على الريح، بعد
كل تجاربهم السياسية اللافتة والمثيرة..
*كاتب وإعلامي من تونس، ومدير موقع "
الرأي الجديد"