من المعلوم أن السياسات الحديثة تتم بلورتها وصناعتها عبر أطر معينة،
يشارك بها علماء في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، لقدرتهم على معرفة ظروف
المجتمعات والإمكانيات والطاقات المتوفرة لديهم، والاحتمالات التي يمكن تحقيقها في
سياقات بيئية داخلية وخارجية، وفي أحيان كثيرة يكون صانع القرار بالأصل واقعا تحت
تأثير مفكر أو مدرسة تفكير لدرجة العمل على تحويل أفكار هذا المفكر أو المدرسة
الفكرية إلى سياسات واقعية، داخليا وخارجيا، كما في حالة الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين وتأثره بأفكار ألكسندر دوغين حول الأوراسية.
في الحالة
العربية، يبدو الأمر معاكسا، فالحاكم العربي المُصاب بعقدة
النقص من الفكر والمفكرين، يأنف التعامل مع هذه الشرائح، فهو إما يعتبر نفسه صفوة
فكر البلاد التي يحكمها والمعلم والمفكر الأول، وهو من يجب أن تُعمم أفكاره وتُدرس،
وإما أنه لا يريد فتح الباب أمام فئات العلماء والمفكرين للتدخل في شؤون الحكم
والسياسة، وهو يعرف مسبقا أن مخرجات سياساته لا تتوافق مع أي منطق علمي.
للحاكم العربي دائما مشروع وحيد، وهو البقاء على كرسي السلطة إلى
الأبد، وتوريثه إلى سلالته إذا أمكن، وفي إطار ذلك، يكيف مخرجات سياساته لخدمة هذا
المشروع، الذي يتطلب أحيانا كثيرة إجراء تعديلات دستورية، رغم أن الدساتير العربية
لا قيمة لها، وكذلك اضطهاد فئات اجتماعية وتصعيد فئات جديدة يرى أنها تشكل بيئته
الداعمة له، وفي سبيل ذلك يصنع سياسات اقتصادية تخدم هذه الاتجاهات، ويجعل من
أوضاع هذه الفئات معياراَ لنجاح سياساته، مع أن التغيير ربما لا يكون أكثر من
تصعيد وجوه اقتصادية جديدة استفادت من أوضاع صُنعت خصيصا لأجلها.
وفي أحيان كثيرة، يقوم الحاكم بمشاريع
تستنزف طاقات البلاد رغم أن جدواها ضعيفة ولا تكون مرئية ولا تؤثر بالحياة العامة
للمجتمع المحكوم، وقد يكون سبب القيام بها، إما لجهل الحاكم بفعالية مشاريع كهذه،
أو نتيجة ترشيحها له من قبل الدوائر الضيقة المحيطة به التي تريد الاستفادة
القصوى من مشروع خاسر سلفا، وتذهب ميزانياته لهذه الدوائر. ويمكن تعداد مئات
المشاريع التي أنهكت الاقتصاد العربي، لكنها أثرت من وقف وراءها ودعمها.
برزت ظاهرة تضخيم ما يسمى الفكر الإصلاحي العربي، واعتباره الخيار والبديل الأفضل بين الفكر الثوري الهدام والفكر المحافظ الجامد، حيث ينخرط جميع الحاكم العرب في مرحلة ما بعد الربيع ضمن فئة يُطلق عليها" الإصلاحيون العرب" بالطبع مجرد اسم وعنوان فارغ، فالإصلاح ليس مجرد مشاريع وهمية، بل أن المجتمعات العربية تتراجع عن التقدم والتحضر، ومن العار أن يتحول المفكر العربي إلى نوع من المسكنات، بدل أن مشاركته في صناعة مستقبل بلاده نحو الأفضل.
هنا يبرز دور العديد من المفكرين العرب، حيث تقتصر مهامهم على العمل
الترويج للمشاريع التي يقررها الحاكم، ويقومون بصناعة أطر فلسفية وسياقات فكرية
عبر دمجها بالتطورات التقنية والاتجاهات الاقتصادية العالمية، واتخامها بحمولات
تنموية ستنقذ اقتصاد البلاد، بالنظر للتحولات الهائلة التي سيخلفها هذا المشروع أو
ذاك.
على سبيل المثال، تم الترويج في السنوات الأخيرة لمشروع جيوسياسي
متقدم يحصل في مصر، يتمثل في انتقال مركز الثقل السكاني والاقتصادي إلى البحر
الأحمر بدلا من البحر المتوسط والدلتا، وهذا المشروع سيكون بوابة مصر للانتقال إلى
عوالم الإنتاج الضخمة، وتحولها إلى بلد مؤثر في الاقتصاد العالمي، وعند تفحص طبيعة
هذا المشروع، لا يمكن العثور سوى على إنشاء بعض الخدمات الترفيهية " شاليهات
وفنادق ومطاعم" من قبل رجال أعمال لا يرغبون في القيام باستثمارات حقيقية
ومنتجة، حتى إن غالبيتهم يتخذون من هذه الاستثمارات واجهات لتبييض الأموال التي تم
جنيها من أعمال غير مشروعة.
ليس من الصعب اكتشاف حقيقة أن الفكرة مسروقة بالأصل من التجربة
الصينية، حينما قامت الصين بتطوير الساحل الشرقي وتحويله إلى منطقة جاذبة
للاستثمارات الدولية، لكن ذلك تطلب إقامة بنية تحتية ضخمة وتأهيل لمئات الآلاف من
الكوادر، التي شكلت رافعة حقيقية في إطار مشروع ضخم تم التخطيط له ودراسة جدواه
بطرائق علمية.
على هذا المنوال، يجري الترويج من قبل الكثير ممن يصنفون في خانة
المفكرين للكثير من المشاريع العربية، الهدف واضح من وراء ذلك، وهو تضليل
الرأي
العام في البلدان العربية عبر الادعاء بأن مرحلة ما بعد الربيع العربي ستكون مليئة
بالثمار، وأن العرب ربحوا في القضاء على الربيع العربي ولم يخسروا، بدليل
الإنجازات الهائلة التي تعم العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، فكل حاكم عربي لديه
مشروع، ولكل حاكم عربي زمرة من المفكرين الذين تمترسوا في غرف عمليات هدفها
الترويج بشراسة للحاكم، ورمي السهام الحادة على كل من يقول بأن هذه المشاريع وهمية
أو خاسرة سلفا.
في هذا السياق، برزت ظاهرة تضخيم ما يسمى الفكر الإصلاحي العربي،
واعتباره الخيار والبديل الأفضل بين الفكر الثوري الهدام والفكر المحافظ الجامد،
حيث ينخرط جميع الحاكم العرب في مرحلة ما بعد الربيع ضمن فئة يُطلق عليها"
الإصلاحيون العرب" بالطبع مجرد اسم وعنوان فارغ، فالإصلاح ليس مجرد مشاريع
وهمية، بل أن المجتمعات العربية تتراجع عن التقدم والتحضر، ومن العار أن يتحول
المفكر العربي إلى نوع من المسكنات، بدل أن مشاركته في صناعة مستقبل بلاده نحو
الأفضل.