ترك لنا درويش عنوانا عن أثر الفراشة استعاره من حكمة أجنبية عن أثر
الفراشة لا علاقة لها بالشعر، ولكنها حكمة اقتصادية. بودنا أن نكتب عن أثر فراشة
يرف جناحها في مكان مجهول فيصيبنا فيئها في
تونس، لكن اللحظة وضعتنا في موضع
الحديث عن أثر البعوضة وهي حشرة فاقدة لكل علامات النُبل وأبعد ما تكون عن
الرومانسية. إنها الصورة السالبة لصورة الفراشة، إنها صورة الانقلاب في مواجهة
الحرية.
كم بودنا أن نكتب قصصا عن رفرفة أجنحة فراشات الحرية، لكننا في موضع
الكتابة عن سموم البعوض السياسي التونسي الذي يمتص دم البلد ويكابر بعناوين
السيادة الوطنية. سأطوف حول أسباب فشل
المعارضة السياسية التونسية في إسقاط
الانقلاب، وهذا من أثر البعوض.
الذكرى الثالثة للانقلاب التافه
قريبا يكتب الانقلاب ذكرى حركته الثالثة ونراقب أنه لن يحتفل بشيء سوى فشله،
وسيقول أنصاره جُمَلَهم المعتادة: إنها حركة تصحيح، وسيرجموننا بمفردات الخطاب
السيادي المشتقة من القاموس القومجي الذي دمر أمة كاملة منذ سبعين عاما.
دخلنا الأسبوع الأول من شهر تموز/ يوليو بصفوف طويلة أمام المخابز. في
الأرياف النائية في الشمال (دون الجنوب) يتدبر الناس أمرهم بقمح قليل حصدوه ولم
يبيعوه، لكن سكان الحواضر وأغلبهم من الموظفين يشقّون في الحصول على غذائهم. سيتم
حل الأمر بحمولة قمح مجلوبة بقرض حفظ الحياة الذي يمنحه الأوربيون لكي لا ينهار
بلد بجوارهم فيصلهم أثر البعوض، لكن الأزمة ستظهر في قطاع المحروقات خلال أيام
قليلة.
أن هناك معارضتين للانقلاب؛ واحدة تصطنع لنفسها صفة التقدمية والثانية معارضة إسلامية (مؤلفة خاصة من حزب النهضة وائتلاف الكرامة) ويصفها الشق الأول بالرجعية (هكذا بدون أسباب). وكان التفكير في توليف المعارضتين في عمل مشترك ضد الانقلاب ينتهي إلى حقيقة أن يعود الإسلاميون إلى التأثير السياسي. هذا أمر يرفضه التقدميون فينتهون إلى إسناد الانقلاب، وفي أقل الأمور سوءا يفضلون السكوت على فظاعات الانقلاب على الديمقراطية لكي لا يعود الإسلاميون
النقد الأجنبي لم يعد يفي بحاجيات التونسيين والانقلاب يمارس تقنية نقل
الأزمة من قطاع حيوي إلى آخر والناس يلهثون خلف المعيش الأدنى، تماما مثل هذا
الرجل الذي أشاهده يدرب كلبه على التقاط صحن فيرسل الصحن في اتجاهات مختلفة والكلب
يلهث ليعيد له الصحن، دون أن يفهم لماذا يجري أصلا خلف صحن بلاستيكي وصاحبه مستقر
في مقامه لا يشقى. كل هذا الفشل يضع معارضي الانقلاب في ورطة أخلاقية ورمزية وينسف
في الواقع كل مصداقية يمكن منحها لهم. ليس أفشل من انقلاب 25 تموز/ يوليو في تونس
إلا من يعارضه، فلماذا يفشلون؟
معارضة أصغر من انقلاب
من باب التنكيد السياسي يمكن القول بثقة مطلقة إن الخائفين من الديمقراطية
قد صنعوا الانقلاب لكننا لن نعود إلى الجُمل الأولى، لقد حصل انقلاب بلا مشروع وظل
يتنفس بلا سردية مقنعة لكن سبب بقائه الحقيقي هو أن معارضيه أصغر منه وأقل قيمة
على الأرض.
لقد كان واضحا منذ الشهر الأول أن هناك معارضتين للانقلاب؛ واحدة تصطنع
لنفسها صفة التقدمية والثانية معارضة إسلامية (مؤلفة خاصة من حزب النهضة وائتلاف
الكرامة) ويصفها الشق الأول بالرجعية (هكذا بدون أسباب). وكان التفكير في توليف المعارضتين في عمل مشترك ضد الانقلاب ينتهي إلى
حقيقة أن يعود الإسلاميون إلى التأثير السياسي. هذا أمر يرفضه التقدميون فينتهون
إلى إسناد الانقلاب، وفي أقل الأمور سوءا يفضلون السكوت على فظاعات الانقلاب على
الديمقراطية لكي لا يعود الإسلاميون إلى حقهم في المشاركة. هذه بعوضة المعارضة
السامة التي نرى أثرها في صفوف البحث عن الخبز أمام المخابز.
بعد إطلاق "مواطنون ضد الانقلاب" وهم طليعة مفكرة ومناضلة مبادرة
معارضة تجمع ولا تفرق، تسلل إلى جوارهم السيد نجيب الشابي مقدما تاريخه النضالي
الشخصي (الذي لم يجلب له إلا فضيحة انتخابية لما تقدم للرئاسيات سنة 2014). من أجل
التجميع فسح له المؤسسون المكانة الأرفع، ومفاوضاته غير المعلنة مع حزب النهضة
وضعته على رأس معارضي الانقلاب، فاستحوذ على مبادرة مواطنون وعلى جمهور حزب النهضة
وإسنادها السياسي، لكن أين حمل السيد نجيب جبهة الإنقاذ؟ مجد صغير بلا أفق وفي
الوقت الضائع.
كان السيد عز الدين الحزقي، أحد شيوخ اليسار التونسي، قد تحرر من الموقف
الاستئصالي وشارك من موقع متقدم في معارضة الانقلاب (ضمن مبادرة مواطنون) لكنه لم
ينجح في إحداث اختراق في الجبهة الاستئصالية، فبقي فردا عالي الهمة وبلا وزن
ميداني رغم أنه يقف كل أسبوع على باب السجن ليزور ابنه ووريثه.
بعد أن تم سجن زعيم حزب النهضة تراجع الإسلاميون إلى منطقة الدفاع عن أجسادهم المستباحة، فماتت جبهة الإنقاذ وماتت المعارضة برمتها وانتعش الانقلاب ومد المنقلب قدميه في الفراغ العظيم. معارضة تقدمية تعيش بجمهور رجعي، إذا صمت "الرجعيون" ولم يقبلوا بوضع القربان الديمقراطي انكشفت المعارضة في تلاشيها السريع
البعوضة السامة لها سيفان؛ سيف الاستئصال الذي يُظهر استعدادات لقتل
الإسلاميين وسيف المعارضين الذين كلما رغبوا في رفع صوتهم حسبوا مكاسب الإسلاميين
من وراء ذلك فيصمتون. هنا تمتد صفوف الناس أمام المخابز وعلى لسان كل فرد منهم حفظ
الحد الأدنى المعيشي. جوع الناس ليس ناتجا عن الانقلاب فحسب، بل عن عجز المعارضة
عن رسم أفق بديل وتقديم أفكار تجعل الناس يعودون إلى الاهتمام بالشأن العام
والمشاركة فيه.
في الأشهر الأخيرة وبعد أن تم سجن زعيم حزب النهضة تراجع الإسلاميون إلى
منطقة الدفاع عن أجسادهم المستباحة، فماتت جبهة الإنقاذ وماتت المعارضة برمتها
وانتعش الانقلاب ومد المنقلب قدميه في الفراغ العظيم. معارضة تقدمية تعيش بجمهور
رجعي، إذا صمت "الرجعيون" ولم يقبلوا بوضع القربان الديمقراطي انكشفت
المعارضة في تلاشيها السريع وفي مقدمتها سي نجيب. هذا الفشل يظهر في طوابير الخبز
وقريبا في طوابير الوقود.. تونس في العالم لم تعد تساوي جناح بعوضة.
الخطاب السيادوي السفيه مسيطر هذه الأيام في تونس ليغطي على الاتفاقيات
المذلة في مسائل تتعلق بالهجرة السرية. خضوع بلا ثمن إلا وعود كاذبة بالتمويل لم
يشعر الناس بها في طوابير الخبز، رغم ذلك فإن الانقلاب يمد ساقيه ويقطع الأمل في
الغد.
ونقول بعد تفاؤل طفولي إن الانقلاب باق رغم
أزماته لأن معارضيه مصابون
بجرثوم الاستئصال، ولن يشفوا.. لقد قرأنا عن ذبابة التسي التسي التي كلما لدغت جسدا
(بشرا أو حيوانا) أصابته بوهن النوم فيظل يذوي كشمعة حتى ينطفئ. معارضة الانقلاب
أصابتها بعوضة التسي التسي الأفريقية فهي تذوي رغم انطفاء أنوار الانقلاب، وهذا
تعبير مجازي فليس لأي انقلاب نور إنما عتمة تغلق أبواب المستقبل.
أثر البعوضة إن الانقلاب وهو يفشل يحمل معه كل الفاشلين من معارضيه وهذه
جملة متفائلة.. تكسر السياق.