الانقلاب يقتل
السياسة في
تونس.. هذه حقيقة تزداد وضوحا مع الأيام. تسود
حالة نفور عامة يخالطها يأس ثقيل وخوف بالغ فلا تسمع إلا عبارات التأفف والقرف..
انكسرت حالة الزهو التي توسعت بفعل المشاركة المفتوحة في النقاشات العامة، وتوقف
التونسيون عن الحديث عن الاستثناء الديمقراطي التونسي، وانقلب حديثهم عن أنفسهم
إلى تجريح الذات، وعاد الذين كانوا ينشرون الموسيقى قبل الثورة إلى صنيعهم الجميل
مكتفين بالفُرجة.
هذا الصمت المحبط هو ما يريد الانقلاب أن يسمعه ليحكم، فالشخص والماكينة
التي تحركه يحبان أن تشيع فاحشة الصمت بين التونسيين وقد حصل لهما ما يريدان حتى
الآن.
هل كانت هناك سياسة قبل الانقلاب؟
هذا سؤال في تجريح الذات قد يعمق الإحباط لكن المراجعات صارت ضرورية، لقد
تكلم التونسيون كثيرا خلال العشرية، وكان بعض قولهم لعن الحرية بما يسمح لنا بقول
ثقيل: لم يستوعب القوم أنهم أحرار فأفحشوا في قول يعدم الحريات، يستوي في ذلك
السياسيون الهواة والإعلاميون الذين نبتوا في المشهد كالفطر المسموم.
لقد كان هناك موضوع واحد يقومون من أجله كل صباح؛ لعن حزب
النهضة، حيث ما
كان موقعه في السلطة أو
في الشارع. لقد تحول الأمر إلى مقرر دراسي يومي، فلما اختفت
النهضة من المشهد وأُسكت زعميها عن إطلاق التصريحات فقدَ هذا الطيف الإعلامي مهنته
واكتشف الفراغ.
حصلت غربلة مفيدة جدا في المشهد، لقد فرز الفاشيون أنفسهم ولم يعد يمكن لأي ديمقراطي أن يتحدث عن أحزاب ثورية ويبني معها حكومات ولو أعطى صندوق انتخابي هؤلاء مكانا في مشهد قادم ولا نراها إلا فرضية جدلية، فهذه التكوينات الفاشية موجودة فقط في وسائل الإعلام والإدارة المتخلفة التي يمكن تغييرها بتطبيقة إعلامية فعالة
أحزاب بشعارات ومكاتب لم تكن لها مهمة إلا بناء عملها (السياسي زعما) ضد
حزب غريم؛ كيف تقصيه من المشهد. أحزاب بموضوع وحيد، فلما اختفى الموضوع اختفت
الأحزاب. ولا نرى للانقلاب دورا في هذا الموت السياسي، لقد كانت أحزابا ميتة، وجزء
كبير من العفن الذي نشم هذه الأيام هي رائحة تحللها.
هل كانت تلك هي السياسة التي ننوح عليها الآن؟ كأنما علينا أن نشكر
الانقلاب على فعل محمود لم يَنْوِه ولكنه حصل بقانون طبيعي. باطن الأمر أنها كانت
أحزاب وزارة الداخلية وقد انتهت مهمتها فطُلب منها الانصراف إلى نشر الموسيقى.
في الداخل كشف الفاشيون وجوهم
حصلت غربلة مفيدة جدا في المشهد، لقد فرز الفاشيون أنفسهم ولم يعد يمكن لأي
ديمقراطي أن يتحدث عن أحزاب ثورية ويبني معها حكومات ولو أعطى صندوق انتخابي هؤلاء
مكانا في مشهد قادم ولا نراها إلا فرضية جدلية، فهذه التكوينات الفاشية موجودة فقط
في وسائل الإعلام والإدارة المتخلفة التي يمكن تغييرها بتطبيقة إعلامية فعالة.
الأحزاب الفاشية من القوميين واليسار وقفت ولا تزال مع الانقلاب وتحارب معه
كل احتمالات الديمقراطية، وهي مستميتة في إعدام الأمل. وعليه فإن المشهد الداخلي
عرف مخربيه ولم يبق إلا أن يجتنبهم، وأن ينسى إلى الأبد منطق "طلقاء قريش"
الذي أحسن الظن في موقع الحذر فأوتي من حسن ظنه أو جهله.
لكن هل تؤدي فضيحة الفاشيين إلى ظهور سياسيين آخرين غير فاشيين؟ هذا في باب
التوقع وليس في باب اليقين؛ لأن حياة هؤلاء الفاشيين دامت طويلا وخربت كثيرا قبل
الثورة وبعدها (فهم صنائع ابن علي بالأساس)، وقد اشتغلوا كسدّ مانع أمام كل بناء
ديمقراطي في كل ميدان بوسيلتهم النقابية التي تقدم لنا نموذجا مدرسيا بوضوح لتحول
النقابات إلى سلاح فاشي معاد للديمقراطية وقاتل للسياسة.
لقد اتضح الفراغ الذي سيطلب عمارة سياسية جديدة في مشهد قادم نؤمن بحدوثه
ولا نزعم معرفة تشكله. نرى أن الفاشية قد فرزت نفسها وصار العمل معها من الماضي
الكريه للديمقراطية الطيبة، وأنه وجب التعامل معها طبقا لوزنها الانتخابي لا
لوزنها الإعلامي المزيف.
البلد يتجدد بالموت
هذه جملة في مواساة الذات بهدف إعادة تعريف السياسة. لم ننفك نكتب أن هناك
حياة بعد الانقلاب، وهذا ليس مطلبا شخصيا بل هو مسار الأشياء الطبيعي. ونبني الأمل
على النهايات الوبيلة التي يُحمل إليها البلد بفعل عجز الانقلاب عن حل معضلات
اقتصادية واجتماعية، لقد أضاف إلى المعضلات السابقة عليه معضلات أخرى وهو يسوّق
وهم حل كوني مثير للشفقة.
في الطريق إلى حياة سياسية جديدة ربح البلد حقيقة موجعة: ليس لتونس أصدقاء
يعول عليهم
لحماية الديمقراطية، فقد سقط ما كان يسوَّق لنا من أن جوارنا الغربي
خاصة يحمي الديمقراطية وأنه سيساعدنا على إنهاء الانقلاب.
من المشهد الحزبي المفكك سيتشكل تكوين ديمقراطي مختلف، ومن المشهد النقابي المزيف ستظهر نقابات تقف عند حدود العمل النقابي، ومن فشل الانقلاب الاقتصادي والاجتماعي ستبنى آراء ومشاريع أخرى تستثمر في الطاقات المحلية ولا تعول إلا على نفسها
الصفقة التي فرضتها إيطاليا بتوطين المهاجرين الأفارقة في تونس وفتحت بها
فجوة المساعدات والقروض؛ بيّنت أنه ليس لنا أصدقاء يحترموننا فضلا على أن يساعدونا،
لقد حوّلوا البلد وحكومته إلى شرطي حدود مقابل ضمان القوت لفترة محدودة. لم يعد
لدينا ما نقدمه مقابل مساعدات أخرى. هذه وقائع لا بد أن يبني عليها كل من سيمارس
السياسة في المستقبل تفكيره وعمله، ومنها ستولد سياسات جديدة. إنها المقدمات التي
تجاهلها الكثيرون مزدهين بوهم صداقات خارجية، ففي موت السياسة المعوقة ميلاد سياسة
أقوم.
الانقلاب هو المرض الذي يحفز
المناعة
أكتب النص فجرا وأداعب الأمل بأن من الإسلاميين الفاشلين سيولد تيار سياسي
إسلامي مختلف يعرف أن يصفع الفاشية ولا يهادنها، ومن المشهد الحزبي المفكك سيتشكل
تكوين ديمقراطي مختلف، ومن المشهد النقابي المزيف ستظهر نقابات تقف عند حدود العمل
النقابي، ومن فشل الانقلاب الاقتصادي والاجتماعي ستبنى آراء ومشاريع أخرى تستثمر
في الطاقات المحلية ولا تعول إلا على نفسها.
هذه صورة جميلة لكنها لا تجيب على الأسئلة العجولة؛ متى وكيف؟ عنصر الإجابة
الوحيد المتوفر هو أن لحظة الخراب الراهنة لن تستمر لأنها لم تعد تملك أي مقوم
للاستمرار، ووهم القوة الذي يعيش به المنقلب هو مشهد من الخداع غير المتقن.
إن قتل السياسة يحييها، وهذه لحظة تونسية تُعدّ الأرض لأجيال أخرى، وأفضل
ما يفعله الفاشلون الآن هو أن يتنحوا عن الطريق.