على عكس الأحزاب المنحدرة من الحركة
الوطنية، لم يبد حزب العدالة والتنمية في
المغرب اهتماما كبيرا بالمسألة
الدستورية في
بداياته، وهو ما يعني أن أولوياته خلال
المرحلة التأسيسية انصبت على كسب الاعتراف العملي والقانوني به كحزب سياسي وطني يتمتع بكافة حقوقه القانونية على غرار
باقي الأحزاب السياسية.
فرغم توفر الحزب على أوراق مرجعية وأدبيات
نظرية دأب على تحيينها بمناسبة انعقاد مؤتمراته الوطنية، غير أن تصوره حول المسألة
الدستورية لم يكن دقيقا بالشكل اللازم، حيث كان يعتبر بأن قضية "الإصلاح
الدستوري ستظل قائمة باستمرار من أجل تحقيق أفضل صورة للمشاركة الشعبية وتحقيق
أفضل صورة من صور الرشد في العلاقة بين الحاكمين و المحكومين" دون أن يدخل في
تفاصيل و طبيعة هذا الإصلاح، أو يتقدم بأي مبادرة أو دعوة في هذا الاتجاه.
أطروحة النضال الديمقراطي لسنة 2008 أو
التأسيس النظري لمطلب الإصلاح الدستوري الشامل..
سبق لحزب العدالة والتنمية أن أنجز ورقة
سياسية متماسكة تحت عنوان" أطروحة النضال الديمقراطي" سنة 2008 وصادق
عليها في المؤتمر الوطني الخامس، وهي أطروحة متقدمة في مفرداتها السياسية اعتبر من
خلالها أن "الإصلاح الديموقراطي مدخل ضروري للإصلاح الشامل" وتقدم
بمقولات على درجة عالية من الأهمية تتعلق بفهمه لوظيفة الحزب السياسي ولعلاقة
الدين بالدولة وللطابع المدني لاختياراته في المجال السياسي ولتمييزه بين مستلزمات
العمل الدعوي ومستلزمات العمل السياسي، لكن تصوره للهندسة الدستورية وكيفية توزيع
السلطات بين مختلف المؤسسات في ظل نظام الفصل بين السلط، ظل مختفيا تحت عبارات
عامة، مع تسجيل أن هناك فقرات مهمة من
أطروحة الحزب السياسية انصبت على نقد الواقع السياسي من الزاوية المؤسساتية
باعتبار أن المؤسسات هي المعنية بصياغة السياسات العامة وترجمتها في برامج سياسية
واجتماعية واقتصادية وثقافية.
وهناك عدة دواع وأسباب تؤكد أن المشكلة
السياسية الكبرى التي يعيشها المغرب هي هشاشة المسار الديمقراطي بما هو مجموعة من
الآليات التي تضمن مراقبة كل من يملك السلطة ومحاسبته، وتبقى الفكرة الأساسية لهذه
الأطروحة هي أن هناك مدخلا واحدا لتحقيق الإصلاح المتمثل في تدبير الشأن العام وفق
شروط سليمة وهي: الحاجة إلى الديموقراطية بوصفها أرقى ما توصلت إليه البشرية في مجال
تنظيم السلطة ومحاصرة الاستبداد ولاشيء يبرر تعليقها أو وضعها تحت الرقابة
والوصاية.
والمقصود بالنضال الديمقراطي هو العمل من
أجل إقرار إصلاحات سياسية تعزز المسؤولية السياسية للحكومة وتعزز صلاحيات ومصداقية
المؤسسات المنتخبة وتوفر الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتعيد
الاعتبار للمشاركة السياسية، وتعزز نظام الحكامة.
أحداث فرضت على العدالة والتنمية تدقيق
تصوراته حول المسألة الدستورية..
مع الدينامية التي أطلقها الربيع العربي
تفاعلت الكثير من المعطيات لتطرح المسألة الدستورية من جديد في سياق سياسي
واجتماعي مختلف مطبوع بالدور الوظيفي الجديد الذي أصبح مطلوبا من الأحزاب السياسية
الوطنية أن تقوم به داخل الحياة السياسية المغربية لنزع فتيل التوتر بين الشارع
والسلطات العليا في البلاد، وخاصة أحزاب المعارضة وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية.
وشكل خطاب 9 آذار (مارس) التاريخي إطارا مرجعيا مشجعا لكافة الفاعلين لبلورة
مطالبهم الإصلاحية في سياق سياسي مطبوع بغليان الشارع.
لقد كان من المهام الرئيسة للقوى السياسية
الجديدة أن تبلور تصوراتها لكيفية تدبير مرحلة الانتقال الدستوري التي فرضت نفسها
على جدول الأعمال الوطني. ولأول مرة سيتقدم حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية بمقترحات
واضحة في موضوع مراجعة الدستور، وقد كانت فرصة لتدقيق تصور الحزب لإشكالية العلاقة
بين الدين والدولة وترجمتها إلى مطالب قانونية واضحة، ومعها مكانة الإسلام في
الدستور، بالإضافة إلى تصوره حول المسألة الديموقراطية وكيفية توزيع السلطة بين
المؤسسات، ونظرته لقضايا الحقوق والحريات الأساسية، وهو ما يستلزم استعراض أهم
مقترحات الحزب في الموضوع، كما وردت في المذكرة التي قدمها حزب العدالة والتنمية
الى اللجنة الملكية لمراجعة الدستور، في شهر آذار (مارس) 2011.
المراجعة الشاملة للدستور استدراك للتراجع
في المسار الديمقراطي.. ومنطلقها هو الرصيد التاريخي للدولة المغربية..
تعتبر المذكرة أن المراجعة الشاملة للدستور
تمثل مدخلا أساسيا لاستدراك التراجع في المسار الديموقراطي "الذي جعل بلادنا
اليوم أمام تحديات الاستجابة لحركة المد الديموقراطي في المنطقة العربية"،
بالرغم من أن شروط تحقيق الإقلاع الديموقراطي كانت متوفرة على الأقل قبل حوالي
العقد، وهو إقلاع سبق للحزب أن أكد عليه في المؤتمر الوطني السادس ل 2008 باعتبار
"الإصلاح الديمقراطي مدخلا للإصلاح الشامل".
واعتبرت المذكرة أن نجاح المراجعة يتطلب
الاستناد على "رصيد الخبرة التاريخية لتطور الدولة المغربية من جهة أولى،
وعلى مدارسة عميقة للإشكالات الناجمة عن الممارسة في ظل الإطار الدستوري الحالي من
جهة ثانية، والتوجهات الكفيلة بتجاوزها من جهة ثالثة" ، ولهذا الغرض شددت
المذكرة على ضرورة " الانطلاق من قراءة سياسية وتاريخية صريحة مستوعبة لأسباب
التعثر والإخفاق تحدد الإطار الناظم والمستشرف لمستقبل التطور الديموقراطي"
من جهة رابعة، باعتبار ذلك "مقدمة ضرورية لتقديم التصور التفصيلي للتعديلات
المقترحة".
مع الدينامية التي أطلقها الربيع العربي تفاعلت الكثير من المعطيات لتطرح المسألة الدستورية من جديد في سياق سياسي واجتماعي مختلف مطبوع بالدور الوظيفي الجديد الذي أصبح مطلوبا من الأحزاب السياسية الوطنية أن تقوم به داخل الحياة السياسية المغربية لنزع فتيل التوتر بين الشارع والسلطات العليا في البلاد
وهكذا تم استهلال المذكرة بديباجة طويلة
للتذكير بالإطار التاريخي والسياسي للدولة المغربية وذلك بغية ربط الإصلاح المزمع
القيام به بالرصيد التاريخي للدولة المغربية : "لقد تشكلت الدولة المغربية
القائمة منذ حوالي 12 قرنا على أساس ثلاثة مرتكزات تكاملت وتفاعلت فيما بينها
لتنتج مشروع الدولة الموحدة والمستقلة والمؤثرة في محيطها"، وتمثلت هذه
المرتكزات في:
ـ المرجعية
الإسلامية الموحدة للمجتمع الضامنة لتماسك البنيان الاجتماعي؛
ـ الملكية
القائمة على المشروعية الدينية الجامعة لمكوناته والضامنة للحريات والاستقلال
والمضطلعة بوظائف التحكيم والعلاقة مع الخارج وتعبئة القدرات لمواجهة تحديات
المحيط؛
ـ لامركزية
واسعة تتيح التسيير الذاتي من قبل السكان لشؤونهم وقضاياهم بحرية واستقلالية في
إطار المشروعية.
إن هذه المرتكزات تؤكد الحضور القوي للعامل
الديني كأساس لضمان التماسك المجتمعي ووحدة الأمة، وكأساس لمشروعية الحكم الملكي،
بالإضافة إلى مرتكز اللامركزية الذي يتيح للأفراد هامشا كبيرا من الحرية لتسيير
شؤونهم المحلية في إطار التسليم بمشروعية الدولة المركزية.
وتذكر الورقة بـ "النقاش الدستوري
والسياسي في المغرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما أفرزه من
مشاريع دستورية ساهم العلماء بدور أساسي في بلورتها، إلا أن دخول الاستعمار أدى
إلى إيقاف هذا المسار الذاتي ودفع المغرب في مسار آخر"ز
وتؤكد الورقة بأن "الاستعمار قام
بإرساء نموذج دولة قائمة على التحكم والضبط وهو ما أتاح له استغلال موارد البلاد
وقمع كل مقاومة لوجوده، مما أدى إلى تفكيك تدريجي وواسع لبنيات الدولة التاريخية
لفائدة دولة مركزية، وكان من الممكن أن يشكل خروج الاستعمار مدخلا لاستئناف مسلسل
التطور الديموقراطي وتصحيح المسار، وذلك بإقامة دولة حديثة هدفها المركزي خدمة
المواطن وليس التحكم فيه،" ثم تمضي المذكرة في تفسير الأسباب التي حالت دون
نجاح مغرب الاستقلال في استكمال المسار الإصلاحي الذي دشنه العلماء والنخب
الإصلاحية، وتربطه أساسا ب"الصراع الحاد الذي نشأ حول المشروعية أفضى إلى
إعادة إنتاج دولة التحكم، والتي رغم ما شهدته من مظاهر انفتاح توسعت في عقد
التسعينيات، إلا أن جوهرها التحكمي بقي ثابتا ولم تؤد المراجعات الدستورية
المتتالية إلى تجاوزه".
التوافق الديمقراطي هو عنوان فلسفة الإصلاح
الدستوري عند حزب العدالة والتنمية..
تقوم فلسفة الورقة على ضرورة تجنب الصراع
حول المشروعية بين الأطراف الأساسية في البلاد، والتركيز على التوافق كمنهجية
ضرورية لاعتماد إصلاح ديمقراطي عميق "يضع المغرب على أبواب الملكية المغربية
الدستورية الثانية بعد الاستقلال" و"نقل الدولة المغربية من دولة التحكم
إلى دولة التشارك في القرار بين مجموع مكوناتها خدمة للصالح العام".
فكرة الدستور الديمقراطي في ظل الدولة الإسلامية لا تلغي سمو المرجعية الإسلامية وضمان عدم مخالفة التشريعات لأحكام الدين الإسلامي
ورغم تشديد الحزب على المرجعية الإسلامية
وعلى الهوية التاريخية للمغرب، وعلى الملكية فإنه ربط المحافظة عليها بالديمقراطية:
"إن مستقبل المغرب هوية ووحدة واستقرارا هو في الديمقراطية، ومستقبل الملكية
المغربية هو في الديموقراطية"، بل ويربط "كسب هذا الرهان يمر حتما عبر
الأخذ بقواعد النظام الديمقراطي بالمعايير الدولية المتعارف عليها دون تجزيء أو
تقسيط، وذلك بإنتاج نموذج ديمقراطي مغربي أصيل لا يخل بالمعايير الدولية ولا يكتفي
باستنساخ نماذج أخرى ويحقق الديمقراطية والشفافية والمحاسبة".
تحدي الملاءمة بين المرجعية الإسلامية من
جهة وقواعد النظام الديموقراطي من جهة أخرى..
إن التحدي الأساسي الذي كان ينبغي الجواب
عليه من طرف الحزب هو: كيف يمكن الجمع بين اعتماد قواعد النظام الديموقراطي
بالمعايير الدولية دون تجزيء أو تقسيط، مع عدم الاكتفاء باستنساخ النماذج الموجودة
والوفاء في نفس الوقت للمرجعية الإسلامية باعتبارها مرتكزا أساسيا لضمان الوحدة
الوطنية وتماسك البنيان المجتمعي؟
وهكذا حاولت الورقة أن تقدم جوابا إجرائيا
على هذا التحدي، دون الخوض في النقاش النظري حول العديد من الإشكاليات، وذلك عن
طريق اقتراح توجهات عامة تجمع بين تعزيز مكانة المرجعية الإسلامية في الدستور
وترسيخ قواعد نظام سياسي أكثر ديموقراطية، وهكذا رسمت الورقة سبعة توجهات
"ينبغي للمراجعة الدستورية أن تعمل على تجاوزها بإبداع وجرأة تجسد نموذج
الدستور الديموقراطي".
وتتمثل هذه التوجهات السبعة في:
1 ـ دستور يرتقي بمكانة المرجعية الإسلامية ويعزز مقومات
الهوية المغربية
2 ـ ملكية ديمقراطية قائمة على إمارة المؤمنين
3 ـ تقدم رائد في صيانة الحريات العامة وحقوق الإنسان
4 ـ ديمقراطية قائمة على فصل السلط و ضمان التوازن بينها:
برلمان ذو مصداقية بصلاحيات واسعة وحكومة منتخبة ومسؤولة.
5 ـ الإرتقاء بالقضاء وإقرار استقلاله.
6 ـ جهوية متقدمة بضمانات دستورية واسعة
7 ـ الحكامة الجيدة الضامنة للتنافسية والمنتجة للفعالية في
تدبير الشأن الاقتصادي.
وهكذا نلاحظ بأن الهدف هو: الدستور الديمقراطي،
الذي يمكنه استيعاب فكرة تعزيز المرجعية الإسلامية للدولة، التي تتمثل أدوارها في
المحافظة على تماسك الهوية المغربية المتعددة الروافد في ظل مجتمع أصيل يتطلع إلى
دولة مدنية حديثة وحرة ذات سيادة تعتز
بمرجعيتها الاسلامية، وتضمن له الانفتاح على العصر "، لكن الورقة تنبه إلى أن
المجتمع لا ينبغي أن يجد نفسه في اصطدام أو تعارض مع مقتضيات تلك المرجعية،
"، وتؤكد على أن المراجعة الدستورية ملزمة بتجسيد هذا الاختيار من خلال
ضمانات دستورية تتمثل في:
ـ أن لا تخالف
التشريعات أحكام الدين الإسلامي.
ـ حماية حرية ممارسة
الشعائر الدينية.
وهو ما يعني أن فكرة الدستور الديمقراطي في
ظل الدولة الإسلامية لا تلغي سمو المرجعية الإسلامية وضمان عدم مخالفة التشريعات
لأحكام الدين الإسلامي، وكنموذج على ذلك تخوض الورقة في توضيح تصورها لمبدأ
المساواة بين المرأة والرجل وذلك عبر المطالبة ب"تعزيز المساواة بين المرأة
والرجل في كافة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية بما لا يخالف
أحكام الدين الإسلامي، وتيسير مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية بما يراعي
مسؤولياتها الأسرية.
في الحلقة القادمة نتابع تحليل منطلقات
الإصلاح الدستوري عند حزب العدالة والتنمية ورؤيته التفصيلية للهندسة الدستورية
الجديدة..