ليس في الأفق
الرئاسي في
لبنان ما يوحي بأن الحل يلوح في الأفق في المدى المنظور، فالجهود
الخارجية لم تستطع حتى اللحظة أن تفتح ثغرة في الحائط المسدود، ولا الأزمة
الداخلية القابضة على رئاسة الجمهورية لديها القابليّة لأن تتموضَع على سكة الحل الرئاسي
وأن تحيد ولو قيد أنملة عن مسار تعطيل انتخاب الرئيس العتيد.
وعلى الرغم مما
تبدو أنها استحالة تصويب المسار الرئاسي في الاتجاه الذي يكسر التعطيل ويفرض
انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، إلا أن الأطراف المعنية بهذا الملف لا تزال تراهن
على سراب، حيث لم يقطعوا الأمل من إمكان حدوث مفاجآت في أي لحظة تقلب الأمور
الرئاسية رأساً على عقب، وتحديداً الفريق الداعم لحليف الأسد-
حزب الله سليمان
فرنجية، والذي لا يزال يعوّل على خرق تُحدثه تقدم العلاقات
السعودية- الإيرانية
والسعودية مع نظام الأسد.
بالتوازي فإن
لبنان والمنطقة يمران بمرحلة وحساسة وضبابية، إن على المستوى الداخلي في الملفات
المالية والدستورية العالقة، أو على المستوى الإقليمي والتحولات الهائلة التي تجري.
في المقابل لا يمكن فصل هذه التحولات عن الاستحقاقات الداهمة والمتلاحقة في مواقع
أساسية، والتي تهدّد ما تبقّى من شكل الدولة اللبنانية وتحديداً في منصب حاكم مصرف
لبنان، في ظلّ الشغور الرئاسي.
والعين لبنانياً
وعربياً على ما يمكن أن تحققه القمة العربية والتي ستنعقد منتصف أيار المقبل في المملكة
العربية السعودية، على ضوء المصالحة السعودية- الايرانية والتقارب بين الرياض
ونظام الأسد، مع استمرار لافت للتمايز الخليجي- الأمريكي وظهور الصين كلاعب وضامن
لصراعات الشرق الأوسط، فيما أثمرت الجهود الأمريكية في ملف إعادة سوريا إلى الحضن
العربي بتجميده في المدى المنظور مع تحفظات
قطرية ومصرية.
ثمة ترقب عالمي وإقليمي
لتطورات خطيرة وصاخبة ستلفح الشرق الأوسط بانعكاساتها المتوقعة. أولاً في حرب أوكرانيا
التي دخلت عامها الثاني مع مزيد من الدمار والتصعيد، واستعدادات الجانب الأوكراني
لهجوم معاكس يعكس حجم المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة وبريطانيا وباقي دول
أوروبا، كان آخرها إرسال برلين منظومة صواريخ "باتريوت" للدفاع الجوي.
كما أن التحول
المتسارع هو ما يحدث في السودان بين البرهان وحميدتي في ترجمة فعلية للصراع الخفي
بين الرياض وأبو ظبي، عبر حرب دموية طويلة عند البوابة الشرقية لأفريقيا والمجاورة
لمصر والسعودية في البحر الأحمر، وحيث بدأ الهمس عن اشتباك أمريكي- روسي عند شاطئ
البحر الأحمر، حيث تسعى روسيا لإنشاء قاعدة بحرية لها، بعد أن نجحت مجموعة "فاغنز"
الروسية في نسج علاقات تعاون مع قوات الدعم السريع المشتبكة مع وحدات الجيش. وهو
ما يعني أن المصالحات والحوارات وخفض التصعيد باتت تختلط مع الحروب والصراعات، وفي
كلا الحالتين تبدو إعادة رسم الخرائط وفق مصالح القوى الدولية على وقع الحرب
الباردة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين.
ووسط هذه التحولات
والصراعات والتفاهمات، ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في البحث عن موقع نفوذ لباريس،
اعتباراً من أن بلاده هي عاصمة أوروبا السياسية، وخاصة بعد هزيمته المحققة في أفريقيا
على يد الأتراك بغض طرف أمريكي لافت، وفقدانه لأهم موطئ قدم خارجي كان يقدم لفرنسا
مداخيل وثروات مالية فاعلة.
ومن خلال الحرب المتصاعدة
في أوكرانيا والتي تضرب أوروبا اقتصادياً وأمنياً، يسعى ماكرون للاعتماد على دعم أمريكي
على مستوى الخريطة الدولية؛ وهو عقبة أكثر منه إفادة أمام سعيه إلى تحقيق المصالح
الفرنسية. وفي غياب الهيبة العسكرية، شعر الرئيس الفرنسي بضرورة التعويض عبر إنجاز
الصفقات، من خلال أدوار محتملة في الشرق الأوسط. في ظل الأزمة الداخلية التي تعصف
بحكومته منذ بداية ولايته الثانية، والتي جاءت ذروتها مع أزمة رفع سن التقاعد وما
تلاها من تراجع حاد في شعبيته وخسارة حزبه الناشئ الغالبية النيابية. كل هذا شكّل
حافزاً له للتمايز والذهاب إلى الصين، والسير بسياسة منفصلة في الشرق الأوسط وفتح
قنوات حوار مع بشار الأسد عبر الاستخبارات.
وهذه الاندفاعة
"الماكرونية" تجلت بمبادرات كان مصيرها الفشل عبر بوابة لبنان الغارق
بوحول الأزمات. ومنذ مدة يعيد ماكرون قراءة المشهد اللبناني عبر استشارة
دبلوماسيين واستخباراتيين عملوا في مرحلة جاك شيراك وعلاقته المتقدمة مع رفيق
الحريري وحافظ الأسد، وهذه القراءة وصلت بماكرون إلى اقتناع تام لإيجاد معادلة
تجمع السعودية وحزب الله في تسوية واحدة عنوانها مؤخراً معادلة سليمان فرنجية في
بعبدا ونواف سلام في رياض الصلح، وهذه المعادلة رسمها له باتريك دوريل في الإليزيه
وإيمانويل بون وبرنار إيمييه في الاستخبارات.
لكن معضلة ماكرون
كانت هذه المرة معضلتين، الأولى رفض سعودي- قطري لمسار المقايضة والحديث عن ضمانات
سبق وفشلت في حقبات منصرمة، وآخرها تسوية 2010 وتسوية 2016 الأخيرة مع ميشال عون،
فيما المعضلة الأخرى هي الرفض المسيحي اللبناني لخيار فرض
فرنسا والثنائي الشيعي
لفرنجية انطلاقاً من سيرته الذاتية وعلاقاته المتصلة ببشار الأسد، وهذا الأمر لا
يمكن القفز فوقه بكون الفيتو المسيحي نجح سابقاً في منع وصول مخايل الضاهر للرئاسة
في العام 1988 والذهاب لحربي الإلغاء والتحرير، هذا ما يخيف السعوديين والقطريين
وهو اهتزاز الكيان وشعور المسيحيين بالعزلة والتهميش.
بالتوازي يبدو
الموقف الأمريكي الأكثر غموضاً في ظل ما يحكى عن دعم واضح لخيارات الثنائي السعودي-
القطري، ما يعزز فرضية أن بربرا ليف بمعارضة السياق الفرنسي، لذا لا يزال الأمريكيون
حتى الآن في خلفية الصورة الضبابية، على الرغم من أن كل الأطراف تعتقد أن موقفها
سيحدد مسارات الحل في حال قررت التدخل مباشرة في الملف الرئاسي.
ويبدو أن واشنطن
تتعاطى مع المعادلة اللبنانية من الزاوية الاقليمية الواسعة، وخاصة أن إيران وحزب
الله يدركان أن إنجاز التسوية مع واشنطن يبقى أكثر ضمانة، وخاصة بعد ترسيم الحدود،
فيما الاتفاق مع باريس سيكون ضعيفاً، خصوصاً أنّ ماكرون يعيش أزمات داخلية، وهنالك
من يعارض استراتيجيته الجديدة داخل الإدارة الفرنسية وداخل الاتحاد الأوروبي
المتمسك بالإصلاح، لذا فالعين ستكون منكبّة على الزيارة المرتقبة للوزير القطري
محمد الخليفي، التي ستحمل معها إشارات واضحة وثابتة.