كشفت الأسابيع القليلة الماضية عن تطورات جديدة على
صعيد تعاطي الدول العربية مع نظام بشار
الأسد، فبعد أن كان الهمس هو سيد الموقف
لدى بعض الدول الراغبة بالتطبيع معه، فإننا سمعنا حديثاً علنياً عن هذا التطبيع، بل
وداعياً إلى عودته إلى جامعة الدول العربية، وهي نفس الجامعة التي ضرب النظام
السوري بكل قراراتها ومبادرتها المبكرة والداعية إلى حل عربي للوضع في
سوريا بعد
اندلاع ثورتها في آذار/ مارس من عام 2011، عرض الحائط. فالنظام رفض المبادرة، وأصر على قتل شعبه،
واستدعى مليشيات طائفية عابرة للحدود وصل عددها إلى 70 مجموعة مليشياوية، بالإضافة
إلى دولتين إحداهما إقليمية بحجم إيران والأخرى قوة عظمى بحجم روسيا؛ للفتك بالشعب
السوري وتدمير كل مقدراته، وهو ما استمر منذ تلك الفترة وحتى اليوم، فكانت النتيجة
ما رآه ويراه العالم بشكل يومي من جرائم ومجازر بحق السوريين.
اللافت هو أن
السعودية التي كانت تدعو بالأمس إلى رحيل
النظام السوري سلماً أو حرباً، والتي كانت تدعم الثورة السورية بالسلاح والمال، هي
نفسها التي تنقلب على عقبيها فتستقبل قادة النظام السوري وعلى رأسهم وزير الخارجية
فيصل مقداد، في الوقت الذي تابع الجميع تصريحات النظام السوري ضد السعودية
وتاريخها. وهنا نطرح السؤال: ما الذي تغير حتى تتغير سياسة المملكة العربية
السعودية، الداعية اليوم إلى تطبيع عربي مع عصابات الأسد؟! ما نراه أن الذي تغير
على النظام السوري هو أنه تحول من قاتل للشعب السوري بالسلاح، إلى قاتل للسعودية
والخليج والعالم بشكل عام، لكن هذه المرة من خلال المخدرات وحبوب الكبتاغون، التي
قدرت الأوساط الرسمية البريطانية بأن إنتاجها في سوريا يشكل اليوم 80 في المئة من
منتوج المخدرات بالعالم، وهو ما يعادل ثلث انتاج كارتلات المخدرات في أمريكا
اللاتينية، الأمر الذي يدرُّ على النظام السوري مبالغ خيالية سنوية قدرتها المصادر
البريطانية بـ57 مليار دولار.
اللافت أنه في نفس الوقت التي كانت السعودية تستقبل
وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد كانت شحنة مخدرات من الكبتاغون الذي يفتك
بالخليج وشبابه تصل إلى ميناء جدة؛ قُدر حجمها بـ 3.5 مليون حبة كبتاغون، وذلك
داخل شحنة من البطاطا، وهو الأمر الذي يتكرر إرساله بشكل أسبوعي للسعودية
والإمارات، ومصر وأوروبا والأردن وغيرهم، وبعد أن كان الأخير هو الداعي الأول
للتطبيع منذ عام 2017 رأيناه يقف ضد هذه العملية في الأيام الأخيرة، والتفسير الوحيد لموقفه هو أن هذا التغير حصل بعد أن ذاق خطر
التطبيع، إذ تحول الأردن إلى بلد ترانزيت لتجارة المخدرات للعالم وتحديداً للخليج،
وجنّد الأردن قسما كبيرا من قواته وأمنه لمحاربة المخدرات القادمة من الشمال
السوري، وهو ما يهدده واقعاً في المستقبل.
الواضح أن الدول الداعمة للتطبيع مع النظام السوري
وعلى رأسها السعودية والإمارات، إنما تقوم بهذه الخطوات على ما يبدو من أجل مناكفة
الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بالتوجه إلى المعسكر الآخر الذي يضم روسيا والصين
وإيران، وهو المحور الذي رآه البعض أكثر إخلاصاً ومساندة في حماية الأنظمة، وقد
تجلى ذلك بدعم النظام السوري الذي فتك بشعبه، واستخدم كل المحرمات في حقه، فظل هذا
المعسكر داعماً له بخلاف حالة التردد التي تنتاب المعسكر الأوروبي.
ولكن ومع هذا فقد ظهر عجز الدول الداعية للتطبيع في
ترويج نظرتها فانهارت فكرة التطبيع مع العصابة الحاكمة في دمشق، وسط رفض أوروبي
ودولي للأمر، وتلويح أمريكا بفرض عقوبات على المتعاملين مع النظام، إذ إن ثمة
عقوبات أمريكية على كل من يتعاون مع النظام السوري، فرضت في قانون قيصر، وقانون
الكبتاغون الأخير الذي صدّق عليه الكونغرس الأمريكي. وقد توقف العمل بهذه القوانين
مؤقتاً حتى آب/ أغسطس المقبل بسبب كارثة الزلزال، لكن سيعود العمل بها بعد هذا
التاريخ، كون التوقف حصل لستة أشهر فقط.
بلا شك وبلا ريب فقد ظهرت دولة
قطر أكثر الأوفياء
للشعب السوري التي عبرت بكل وضوح وصراحة ضد عودة النظام السوري إلى الجامعة
العربية، ومن الواضح أنها حشدت الدعم العربي لخطوتها هذه، وهو ما أنجحها في
النهاية، الأمر الذي عزز مكانتها إن كان على مستوى غالبية الشعب السوري الرافضة
للتطبيع، أو على مستوى الشعوب العربية التي لا تزال متمسكة بخياراتها في الربيع
العربي، وهو ما منح جرعة أمل وتفاؤل لهذا المعسكر وعكسه في المعسكر الآخر.
على صعيد الجبهة الداخلية السورية، لوحظ رفض شعبي صارخ
للخطوة، وكشف الرفض عن أن كل القمع والخذلان الذي تعرض له الشعب السوري لاثنتي
عشرة سنة، لم يفلح في ثنيه عن مواقفه تجاه هذا النظام، وقد صعد الثوار في الشمال
السوري المحرر من عملياتهم العسكرية النوعية، والتي تستنزف النظام وقواته، في ظل
انشغال حلفائه في روسيا بحربهم في أوكرانيا، وكذلك حلفائه الإيرانيين في ثورتهم
الداخلية، أو مصادماتهم مع المجتمع الدولي.
الظاهر أن المنطقة تتجه إلى استقطاب دولي حاد جديد،
وعلى السياسة الأمريكية والغربية تحديد موقفها بشكل أوضح تجاه النظام السوري، إلا
فإن حلفاءها التقليديون سيتسللون منها لواذاً، وبوابة هذا الاستقطاب الحاد سيكون
الواقع السوري على ما يبدو.