الكتاب: "بورتريه المرأة من الرّواية
إلى الرّسم: نجيب محفوظ وحلمي التوني أنموذجا"
الكاتب: رجاء الفاريك
الناشر: مسكلياني للنشر والتوزيع، تونس 2022
عدد الصفحات: 231 صفحة.
ـ 1 ـ
غالبا ما يمنعنا التباعد السيميائي بين الرّسم
والسّرد من إدراك ما بين الفنّين من وشائج كثيرة قديمة قدمهما فالرّسمُ سردٌ. ونحن
لا نتمثّل اللّوحة إلاّ إذا ما نزّلناها في مساق سردي ومنحناها هوية سردية. فلا
معنى لرسومات الإنسان البدائي المثبتة على جدران كهوفه إن لم نستدع سياقه الحضاري
ونتبيّن من خلالها محاكاته لتفاصيل حياته اليومية من أعمال صيد وزراعة وتدجين
للحيوانات وإن لم نجعل اللوحة المرسومة لحظة من مشهد كامل يضجّ بالحياة، ولم
نتخّيل ما قبل عملية الصيد من استعداد وتجهيز للأسلحة المعتمدة ونتوقّع ما يقدّر
لها من نتائج، من تقاسم للريع أو تصادم حوله.
ولا معنى للوحة الغيرينكا التي تدين الحرب
وتعرض أهوالها ما لم نتبيّن آثار القصف ونتمعّن تحوّل واجهة البناية إلى حطام
يتهاوى ويحوّل المدنيين إلى أشلاء بشرية وما لم نلجأ إلى السّرد فننزل هذه الأحداث
الفرعية في سياقها التاريخي حين هبّ الطياران الألماني لدعم جيوش فرانكو سنة 1937.
والسّردُ عرضٌ تأتلف مشاهده من تتابع اللّوحات الثّابتة. والذّهن البشري لا يتمثّل
الحكاية ما لم ينزّل أحداثها في أفضية وأزمنة وما لم يمنح حركتها هيئات وأشكالا
وألوانا وأحجاما، أي ما لم ينظر إليها بعين التّصوّر على عبارة ابن جنّي.
ـ 2 ـ
ليس التفاعل بين الخلفيات النظرية للفنّين
إذن محض صدفة أو تشابه عابر. فقد منحت تقنية المنظور التّشكيلي لرسومات عصر النهضة
مجدها. ومنحتها القدرة على تمثيل الأجسام والأشكال تمثيلا يعطينا الانطباع بأننا
نرى المشهد من خلال نافذة تنفتح على العالم وفق تشبيه ألبرتي ذائع الصيت. ولكن ما
إن استقر جهازه المنظور المفاهيمي وهُيئت له سبل بسط الّنفوذ، حتى ظهرت تطورات
تقنية وأخرى معرفية قوّضت سلطانه وأقصته من ساحة
الرسم وسطت على المنجز التشكيلي
وعبرت به إلى مرحلة ما بعد الرسم المنظوري. وكباحث عن ملاذ جديد آمن دخل مبحث المنظور
ساحة القصّ
الأدبي المطمئنة. وأخذ يشاغل كتابها. فلمّا كان الرّسام الفرنسي كلود
مونيه يدقّ أول إسفين في نعشه في المجال التشكيلي بلوحته "انطباع شروق
الشمس" التي شكلت ثورة على الواقعية المكبلة بتفاصيل اليومي وبإكراهات
القياسات الهندسية لتحديد نقطة التلاشي وضبط الإسقاطات الصحيحة وفق نظرية طاليز
الرياضية، نشر الألماني فريديريتش سبيلهاقن مقالاته التي تخوض في وجوه بناء
الرواية وتدعو إلى ضرورة جعل الراوي محدود المعارف يتأثر بالعوائق الموضوعيّة.
لا معنى لرسومات الإنسان البدائي المثبتة على جدران كهوفه إن لم نستدع سياقه الحضاري ونتبيّن من خلالها محاكاته لتفاصيل حياته اليومية من أعمال صيد وزراعة وتدجين للحيوانات وإن لم نجعل اللوحة المرسومة لحظة من مشهد كامل يضجّ بالحياة، ولم نتخّيل ما قبل عملية الصيد من استعداد وتجهيز للأسلحة المعتمدة ونتوقّع ما يقدّر لها من نتائج، من تقاسم للريع أو تصادم حوله.
وكان ذلك بين سنتي 1864 و1898. وفيها نبّه
إلى أنّ الراوي مطلق القدرات يضير بالعمل الأدبي ويحدّ من كونيته. وما لبث هذا
المبحث أن انتقل إلى السّاحة الإنجلوسكسونية. فناهض هنري جيمس، منذ بداية القرن
العشرين، الراوي العارف بكل شيء على المستوى النّظري وعمل على تجاوزه في كتاباته.
وجعل من اختفائه مقياس الجودة الإبداعية في التجربة الروائية. وضمّن تصوراته
الكثير من آراء الألماني فريديريتش سبيلهاقن. فكان يتهم الرّاوي كلّي المعرفة
بالتهاون واللامسؤولية تجاه مقتضيات فنه قدر تهاونه تجاه قارئه، داعيا إلى اعتماد
تقنية وجهة النظر ساعيا إلى العرض الأمين للحياة الذهنية عبر الإيهام الكثيف بالواقع
أوّلا والمحافظة على انسجام العمل الروائي وجعله مكتفيا بذاته ثانيا.
ـ 3 ـ
وكما الكائنات الحية التي تتحوّل جينيا
لتتلاءم مع أوساطها الجديدة غير هذا المبحث من استراتيجياته وأخذ في اعتباره
الاختلاف الوسائطي والسيميائي بين الرسم والأدب. فغدا همّهُ البحثَ في الراوي
موقعا وموقفا بعد أن كان ينحصر في موقع الرائي مما يرى من اللوحة أساسا. فدعا
الدّارسين إلى التساؤل عمّن يرى وعمّن يعرف وعن مصدر معارفه وأسس في مملكته
الجديدة مبحث المنظور السردي.
لقد أسهمت هذه التقنيات في وعي باحثي السرد
بــأنّ الراوي كلّي المعرفة القادر على اختراق حدود الأفضية والأزمنة والأذهان على
اختلافها، مناقض لطبيعة الإدراك البشري، وأنّ على هذا الرّاوي أن يمثّل، في
مروياته، ما يدركه الذّهن من حالات الشّخصيات وما تشهده من التّحوّلات. وصرفتهم
لاحقا إلى محاولة ضبط خطاطات لمختلف ضروب الرّوايات وأصناف التبئير، مدفوعا بهاجس
التّصنيف والتّقعيد العلميين الموروثين عن الفلسفة الوضعيّة. ولكن يقتضي الإنصاف
أوّلا أن نعترف بمغالتنا ونحن نصف عبور تقنيات الرّسم إلى الأدب باللجوء أو الغزو.
فالفنون والخطابات تتقاطع وتتراشح ويفيض فيء بعضها على بعض.
وتتبادل المغانم أو تتصارع من أجل الاستئثار
بها. ولطالما مثّل الرّسم معينا للرّواية. فكانت تضبط أساليبها للوصف في ضوء
تقنياته. ومن تقنيات المنظور التّشكيلي استمدت قدرتها على الاعتناء بتفاصيل العنصر
الموصوف وعرض دقائقه في الكتابات الواقعية حتى غدت محاكاة الواقع الخارجي أمارة على
إجادة المؤلّف للكتابة الروائية. وتنافس فيه المتنافسون. ثم لمّا أظهر الرّسم
التعبيري ثورته ضد المحاكاة واعتبر أنّ الحقيقة التي يلاحقها الفنّان لا تكمن في
العالم الخارجيّ وإنما في ما يخلّفه هذا الخارج فينا، وعمل على أن يعطي شكلا للرؤى
والمشاهد الداخلية والأحاسيس والأحلام والكوابيس وكل التّجارب التي نعيشها في
أعماق الذات، غيّر الروائيُّ بوصلته. وعدّل من أسلوب الوصف وحاول بدوره أن يغوص في
أعماق شخصياته وأن يلاحق ما تعيشه من الرؤى والمشاهد الداخلية والأحاسيس والأحلام
والكوابيس. ثمّ توالى ظهور التّيارات الفنّية المناوئة للمنظور فظهر الفن التجريدي
والسريالي فاختفى أثره جزئيا أو كليّا. وأضحى غيابه عنوانا للحداثة أو المعاصرة
أسلوبا في الرسم والسرد في الآن نفسه.
ويدعونا الإنصاف ثانيا إلى أن نقرّ بأنّ
علاقة السرد بالفنون التشكيلية ليست علاقة تبعية مطلقة. وفي أدبنا العربي أكثر من
مثال جيّد لهذه العلاقة التفاعلية بين الفنين. ولكن تبقى مدوّنة نجيب محفوظ
الروائيّة الأقدر على بسط هذه العلاقة. وفي هذا السياق المعرفي والجمالي يمكننا أن
ننزّل أثر "بورتريه المرأة من الرّواية إلى الرّسم: صورة المرأة نجيب محفوظ
وحلمي التوني أنموذجا" لرجاء الفاريك.
ـ 4 ـ
لقد انتبهت الباحثة إلى أنّ نجيب محفوظ قد
اصطنع من قلمه ريشة في رواياته تعمل على التقاط عناصر العالم الخارجي ومحاكاته بحس
رسّام كلاسيكي يوظّف المنظور التّشكيلي وعناصره وآلياته كخطّ الأفق وخطّ الأرض
ونقطة التّلاشي وخطوط التّلاشي لتمثيل الأجسام والأشكال كما تراها العين في
الواقع، حتى نازعت عنده الوظيفةُ التسجيليةُ الوظيفةَ الجمالية وسارت معها جنبا
إلى جنب.
وفي استهلال رواية القاهرة الجديدة مثال
جيّد يؤكد سلامة اختيارها: "مالت الشّمس عن كبد السماء قليلاً، ولاح قرصها من
بعيد فوق المباني.. كأنه منبثق منها إلى السماء، أو عائد إليها بعد طواف. ساعة
العصاري تهل بملامحها الذهبية المشرقة، والسماء متجلية في صفاء، مُطَرِّزة بعض
نواحيها المترامية بسحائب رقاق، والهواء يتخبط بين الأشجار فتُرجِع أوراقها أنينه
ونحيبه. في السماء دارت حدآت حيارى، وعلى الأرض انطلقت جماعات من الشباب يؤنسون
الطريق، مشتبكين في حديث واحد.. الأرض والعرض".
وفهمت أن الكاتب، حالما انكفأ على ذاته بعد ثورة
1952 وهو الوفدي الهوى واهتز إيمانه بالقدرة على الخلاص الجماعي، حوّل كتاباته من
الروايات الملحمية التي تقصُّ عبر تعاقب الأحداث حكايات الشعب المصريّ البطولية
وتضافر فعله في بناء اللأمة والمجتمع إلى روايات تلاحق شخصيات فردية مأزومة وتبحث
في مصائرها وتغوص في بواطنها وتتقصى اعتمالات نفوسها وتنزع بجلاء إلى الإفادة من
مقولات التّيار التعبيري. واستهلال رواية "اللص والكلاب" أنموذج جيّد: "مرة
أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته
الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً. ها هي الدنيا تعود، وها
هو باب السجن الأصم يبتعد منطوياً على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة
بالشّمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا
شفة تفتر عن ابتسامة.. وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة
غدراً، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحدياً. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة
أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائبة. نبوية عليش، كيف انقلب
الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب
السّجن لن ينفتح، ولعلّكما تترقّبان في حذر ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت
المناسب كالقدر.
نجيب محفوظ اصطنع من قلمه ريشة في رواياته تعمل على التقاط عناصر العالم الخارجي ومحاكاته بحس رسّام كلاسيكي يوظّف المنظور التّشكيلي وعناصره وآلياته كخطّ الأفق وخطّ الأرض ونقطة التّلاشي وخطوط التّلاشي لتمثيل الأجسام والأشكال كما تراها العين في الواقع، حتى نازعت عنده الوظيفةُ التسجيليةُ الوظيفةَ الجمالية وسارت معها جنبا إلى جنب.
وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر
والغبار والبغضاء والكدر. وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر. ماذا تعرف الصغيرة
عن أبيها؟... لا شيء، كالطريق والمارة والجو المنصهر. طوال أربعة أعوام لم تغب عن
باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل الحب.
ينعم في ظله بالسرور المظفر، والخيانة ذكرى كريهة بائدة؟ .. استعن بكل ما أوتيت من
دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء
كالسّمكة ويطير في الهواء كالصّقر ويتسلق الجدران كالفأر وينفذ من الأبواب
كالرّصاص». ودفعها وعيها العميق هذا إلى أن تبحث في علاقة عالم محفوظ الروائي التّفاعلية
بفنّ الرّسم.. واختارت أن يكون عملها "مختصا بالبحث في "بورتريه" المرأة
الذي مثّل مادّة خصبة للعديد من الفنّانين التّشكيليّين وانتخبت من هؤلاء أعمال
حلمي التّوني الذي أولى المرأة في روايات نجيب محفوظ اهتماما كبيرا في مجموعة من
اللوحات اختار أن يسمّيها "نساء نجيب محفوظ".
ـ 5 ـ
وفي استدعائها لأعمال حلمي التوني ما يكشف
توفيقها في اختيارها. فالرّجل يسلك مسلك محفوظ نفسه في الوفاء للرّوح الشعبية
المصرية. فقد ظل يوظّف مختلف أشكال الفنّ الشّعبي المصري وأساطيره المؤسسة في
رسومه.فخوّلت له هويته الفنية هذه أن يضع الكثير من روحه ومن فنّه في ملامح "نساء
محفوظ" وهو يستدعيها إلى لوحاته وأن ينشئ مع منجز الكاتب حوارية جعلت أشرف
أبو اليزيد يصادر في مقدمة كتابه "نجيب محفوظ.. السارد والتشكيلي" على
أنّ مصرية التّوني التشكيلية "أعادت تفسير مصرية محفوظ السردية بصريا، حتى أن
نكهة أحدهما لم تتفوق على الآخر، ولم تغالب مكانة الفنان الأديب، وإنما نهل
متبادل، لأن المعين واحد".
لقد ولّت رجاء الفاريك وجهها شطر المدونتين
لتدرس سيمياء المحيا وتلتقط فعلَ المُؤثّرِ أدبا ورسما ولتقارن بين رؤية محفوظ
للمرأة وإعادة إنتاج حلمي التوني لها وتبحث في وجوه التفاعل بين الفنّين المختلفين
وأثر المدارس المختلفة الفنّية منها والفلسفية في تشكيل الرؤيتين. ولم تجعل هذا
المبحث وجهتها إلا بعد أن أعدت له ما يُستوجب من عدّة وتسلحت بكثير من الصّبر
والمعرفة بفلسفة الجماليات ومناهج التأويل وبتاريخ الفنين وتجربة الرجلين الحياتية
والفنية. فمهدت لبحثها بمقدمة نظرية تبحث في جنس البورتريه فتأخذنا من ساق نشأته
في الفنّ التّشكيلي إلى رحيله إلى فنّ الرّواية وتتقصّى ما بينهما من تقاطعات ومن
تباينات عائدة إلى الاختلافات السيميائية بين الفنّين وإلى دور التّجارب الذّائعة
في الإنشاء والتّقبل في كليهما. ثم انصرفت في عملها التطبيقي إلى رصد عبور هذه
البورتريهات من روايات نجيب محفوظ الواقعية شأن بورتريه حميدة في "زقاق
المدقّ" أو أمينة في الثلاثية ورواياته التعبيرية شأن زهرة في "ميرامار"
أو سمارة بهجت في "ثرثرة فوق النّيل" إلى لوحات حلمي التوني وما أنتج من
احتمالات للمعنى تترجم فكر محفوظ تشكيليا أو تناقشه فتنسخ بعضه حينا وتضيف إليه
حينا آخر.
ـ 6 ـ
أثر "بورتريه المرأة من الرّواية إلى
الرّسم: صورة المرأة نجيب محفوظ وحلمي التوني أنموذجا" وساطة بين السّرد والرّسم وإضافة عارفة
للدراسات النّقدية والفنّية تحث الباحثة على المضيّ قدما إلى الأمام وتعلمها بلا
شك أنّ الدّرب واسع يحتاج الشدّة والمثابرة وطول النّفس.