كتب

لماذا لا تحارب الدول الديمقراطية بعضها بعضا؟ كتاب يجيب

هل فعلا تتجه الدولة الوطنية إلى الذوبان؟ نقاش علمي هادئ
الكتاب: الصراع على تفسير الحرب والسلم: دراسات في منطق التحقيق العلمي في العلاقات الدولية،
الكاتب: سيد أحمد قوجيلي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، نوفمبر 2018.


منذ أن أنشأ اللورد ديفيد ديفيس (D. Davies)أول قسم للعلاقات الدولية في التاريخ، في جامعة أبريستويث، عام 1919، وإلى غاية منتصف ثمانينات القرن العشرين، شهد اختصاص العلاقات الدولية "ولادة" 12 نظرية. احتوى هذا الكتاب على عرض مستفيض لأهم النقاشات الموجودة حولها. وعرض الكتاب، بشكل محدد، أدوار ما يُعرف بالنقاش الثاني في نظرية العلاقات الدولية، بين النظريات الواقعية والمؤسساتية النيوليبرالية، والنقاش الثالث بين المقاربات الوضعية وبعد-الوضعية.

مؤلف الكتاب هو الباحث الجزائري، د.سيد أحمد قوجيلي، الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية، في جامعة عبد الحميد بن باديس بالجزائر. وقد جاء الكتاب في 448 صفحة من القطع الوسط، قسمه، قوجيلي، إلى أربعة أقسام، ناقش فيها منظورات متنوعة للشؤون الدولية، تمثّل منظورات متنافسة ومتضاربة؛ فهي تنقسم، من حيث شكلها العام، إلى عالمين: عالم الصراع (منظور كطريق إلى الحرب) وعالم التعاون (منظور كدعامة للسلام).

في مقدمة كتابه أشار قوجيلي إلى أن فصول، هذا الكتاب، كانت في الأصل دراسات منفصلة أُعدت للنشر في الدوريات الأكاديمية المُختصة، تم تحويلها إلى كتاب لتغطية الغياب، شبه التام، للمجلات العلمية المختصة بالدراسات النظرية باللغة العربية. وأضاف أن الكتاب لا يعد مختلفًا إذا نظرنا إليه من ناحية المحتوى، ولكن إذا نظرنا إليه من ناحية المنهج، نجد فيه شيئًا يميزه عن الأعمال الموجودة في الساحة الأكاديمية العربية، فهو يقدم مدخلًا تحليليًا في ما وراء النظرية، أو ما يعرف بنظرية النظرية، وهو نوع من التحقيق يبحث في النظرية ذاتها، من دون اختبارها، أو مطابقتها مع الشواهد الإمبريقية (التجريبية).

القسم الأول.. بناء النظرية وتقويمها

بدأ، قوجيلي، الفصل الأول "النظرية والقانون والسببية"، بالإجابة عن سؤال لماذا نحتاج إلى النظرية؟ يرى قوجيلي أن النظرية تؤدي مجموعة من الوظائف المتساندة، ويتفق مع معظم علماء الاجتماع على أن التبسيط يُعد أهمها على الإطلاق، "إن الواقع معقد، والنظرية بسيطة" (ص 19).

قسم، قوجيلي، الفصل إلى أربعة محاور: ناقش في الأول النظرية في الفلسفة الوضعية، وهي الفلسفة التي ولد اختصاص العلاقات الدولية في مهدها، وبحث، في الثاني، عن تعريفات مصطلح النظرية في اختصاص العلاقات الدولية، والذي يوجد حولها انقسام حاد، بسبب الطابع المتعدد الاختصاص لعلم العلاقات الدولية. ولكنه أشار إلى أن هذه الاختلافات، لم تمنع بناء حد أدنى من الاجماع بين المنظرين، في ما يتعلق بالعناصر التأسيسية التي يلزم توافرها في أي نظرية. وبشكل عام، عرف، قوجيلي، النظرية بأنها "مجموعة الارتباطات السببية، التي تؤسس لعلاقات اعتمادية، بين المتغيرات المحددة، بقوانين تجريبية" (ص 21).

في المحور الثالث أكد، قوجيلي، أن النظرية أعم وأشمل من القانون، لأنها تحتوي على ما يقل عن قانون واحد، أو مجموعة من القوانين المخصصة إلى سلوك أو ظاهرة معينة. أما  المحور الرابع، فأشار فيه الكاتب إلى أن علماء العلاقات الدولية يعتمدون عددا من المعايير القياسية لتقويم النظريات الشائعة في العلوم الاجتماعية وفلسفة العلم وهي: الاتساق المنطقي، درجة الابتكارية، والتأكيد الإمبيريقي (التجريبي).

يتفق الإبيستمولوجيون على أن التقدم العلمي، هو المعيار الأكثر أهمية للحكم على مدى علمية أي حقل معرفي، وفكرة التقدم في فلسفة العلوم ارتبطت بأعمال كثير من الفلاسفة، لكن شهرتها ذاعت عقب النقاش الذي أثاره توماس كُون وإيمري لاكاتوش حول محددات التقدم العلمي، ومعايير النظرية العلمية الجيدة، ما دفع، قوجيلي، لتخصيص الفصل الثاني "كُون أم لاكاتوش؟ الثورة والاستمرارية في نظرية العلاقات الدولية"، لمحاولة الإجابة على هذا السؤال.

يرى، قوجيلي، أن إطار كُون أكثر ملاءمة لاختبار التقدم العلمي، ومقارنته في مجموعة من النظريات المتنافسة، من خلال وضعها في المواجهة بعضها بين بعض على شكل نقاشات براديغمية (إدراكية). وفي المقابل، فإن إطار لاكاتوش أكثر ملاءمة لاختبار التقدم العلمي داخل النظرية الواحدة. بشكل عام، افترض، الكاتب، أن كلا المنهجين واعد في تفسير التحقيق العلمي إذا طبق على الحالات النظرية الملائمة، وأن، في ظل شروط محكمة، هناك إمكانية لتوليفهما في إطار مشترك.

القسم الثاني.. الصراع في السياسة الدولة

أشار قوجيلي في مقدمة فصل "نظرية الحرب صعود الدراسة العلمية للنزاعات الدولية" إلى أن دراسة الحرب مهمة معقدة ومحفوفة بالأخطار، كونها "حادثًا نادرًا في السياسة العالمية" (ص 80). وتشكل هذه الندرة معضلة؛ فوقوع الحادث النادر يتطلب عوامل فريدة، بينما العلم يقوم أساسًا على الأنماط التكرارية. ما دفع ديفيد سينغز، العالم الأكثر تأثيرًا في حقل العلاقات الدولية، إلى أن يعلن أن الدراسة المنظمة للحرب أخفقت في التوصل إلى إنجاز نظري مهم لتفسير الحرب.

قسم قوجيلي الفصل لعدد من المحاور،  تتبع في الأول صعود الدراسة العلمية للحرب، التي شهدت تطورًا مثيرًا في العقود الأخيرة، من خلال مرحلتين بدأت أولهما بصدور كتاب (الديناميكا الاجتماعية والثقافية) لبيتريم سوركين، فيما بدأت الثانية بظهور "مشروع ارتباطات الحرب".

في المحور الثاني، سعى قوجيلي للبحث عن مبدأ التنظيم الذي نرتب به التفسيرات، أو النظريات التي قدمت لتصنيف أسباب الحرب، كما سعى لإيجاد المعايير التي نتبعها في تصنيفها. وأوضح، قوجيلي، أن هناك مستويات مختلفة من التحليل، وهي: أولًا، المستوى الفردي، ويركز على أسباب الحرب في وحدة صنع القرار، وثانيًا، مستوى الدولة، ويركز أسباب الحرب في العمليات المحلية، وثالثًا، على المستوى الثنائي، ويركز أسباب الحرب في التفاعلات الثنائية لأزواج الدول، وأخيرًا، مستوى النسق، وينسب أسباب الحرب إلى البيئة العالمية والإقليمية للدول.

أفرد، قوجيلي، لكل مستوى من مستويات التحليل، محورًا، لمناقشته، وخلص في ختام الفصل إلى أنه "ليس هناك سبب وحيد للحرب، ومن ثم لا توجد نظرية وحيدة لتفسيرها" (ص 112).

درس قويجلي، في الفصل الرابع  "أسباب الحرب في النظرية الواقعية"، وهي النظرية التي قدمت نفسها في اختصاص العلاقات الدولية بوصفها "نظرية الحرب"، التي تدرس الحرب، أملًا بخفض احتمالات النزاع في المستقبل، بحسب وصف الواقعيون أنفسهم.

وجد، قويجيلي، أن الواقعية المعاصرة تُرجع أسباب الحرب إلى البيئة الأناركية التي تعيش فيها الدول. وبينما أدرك الواقعيون الكلاسيكيون نتائج العيش في الأناركية، لكنهم لم يمنحوها دورًا سببيًا مستقلًا في نظرياتهم. أما الواقعية البنيوية، فقد اختلف علماؤها في أمر النتائج المترتبة عن الأناركية، التي وجدوا أنها المتغير السببي الأهم  لتفسير حدوث الحرب.

يرى قوجيلي، أن الواقعية النيوكلاسيكية تستحق مزيدًا من الانتباه والاهتمام، من الباحثين العرب، فهي تتيح للباحثين توليف واقعية هانز مورغنتاو الكلاسيكية، وواقية كينيث والتز البنيوية، في نظرية واحدة، متماسكة منطقيًا وثابتة استنتاجيًا. لذا خصص، قوجيلي، الفصل الخامس، لدراسة "الواقعية النيوكلاسيكية - النظرية الصاعدة للسياسة الخارجية".

في الفصل السادس، ألقى، المؤلف، الضوء على المكاسب النسبية في مقابل المكاسب المطلقة، وتسائل "هل التعاون ممكن في السياسة الدولية؟".

أشار، قوجيلي، أن الجدال الدائر حول المكاسب النسبية/المطلقة، كان أهم محاور النقاش النظري بين الواقعية والمؤسساتية النيوليبرالية في سبعينيات القرن العشرين. ويرى قوجيلي أنه بالرغم من أن النقاش لم ينتهِ إلى إجماع نهائي بين مؤيدي كلتا النظريتين، إلا أنه أسس القواعد لأرضية مشتركة في طريقة مقاربة الموضوع؛ فما عاد التعاون صعبًا أو مستحيلًا في ظل القيود البنيوية المفروضة بالبيئة الأناركية التي تتفاعل فيها الدول، وما عادت الاعتبارات الأمنية المتغيرَ الحاسم في تقرير طبيعة الترتيبات التعاونية.

وجد قوجيلي أن النتيجة المحتملة من التفاعل الثنائي تتوقف على البيئة التي يجد صناع القرار أنفسهم فيها، وعلى التصورات التي يحملونها تجاه هذه البيئة. "بمعنى آخر، إن التعاون الدولي (واحتملاته) هو نتيجة البنية والعملية في الوقت نفسه". (ص 193)

القسم الثالث.. التعاون في السياسة الدولية

في الفصل السابع "صعود السياسة العالمية ـ العلاقات عبر القومية والاعتمادية المتبادلة" عرض الكاتب كيف شهدت سبعينيات القرن الماضي تحولات جذرية في نظرية العلاقات الدولية، وفي مقدمتها أن الواقعية ما عادت النظرية المهيمنة، وكيف قدم علماء العلاقات الدولية أسماء جديدة لحقل الدراسة، رُشحت كبدائل لعبارة "السياسة الدولية"، حيث تم اقتراح العبارات مثل "المجتمع الدولي"، و"المجتمع العالمي"، ولكن عبارة "السياسة العالمية" هي التي نالت قبول الباحثين في الحقبة الجديدة.

بعد مضي أربعة قرون على ولادة الدولة القومية، فلا تزال الشكوك تحوم حول كفاءتها وشرعيتها، بوصفها التنظيم السياسي، الأمثل، للجماعة الإنسانية، وفي حين أشار البعض إلى تقلص حجم الدولة ووظائفها، ذهب آخرون إلى حد التنبؤ بقرب زوالها.

شكّل أنموذج السياسة العالمية تحولًا مثيرًا في نظرية العلاقات الدولية، أجمله، قوجيلي، في نقاط ثلاث: الأولى هي أنه أثبت محدودية أنموذج تمركزية الدولة الشائع في الواقعية، وأبرز أهمية الفواعل غير الدول، والحركات الاجتماعية عبر القومية، وأعاد الاقتصاد السياسي الدولي إلى مركز التحليل الحقلي؛ والثانية أنه بيّن أن الاعتمادية الدولية يمكن أن تكون قاعدة لتأسيس الترتيبات التعاونية السلمية؛ والثالثة هي أنه بيّن أن عالم الشؤون الدولية أكثر تعقيدًا ممّا تفترضه المنظورات الواقعية التبسيطية والاختزالية، وأن المتغيرات السببية يمكن أن تتعدد وتتنوع.

خصص، قوجيلي، الفصل الثامن، لدراسة "المؤسساتية النيوليبرالية"، التي ظهرت في بدايات ثمانينات القرن العشرين، وقدمت نفسها بوصفها المقاربة المبينة على فرضية أن أعمال الدولة تعتمد على سيادة الترتيبات المؤسساتية، ما شكل تحديًا للبراديغم الواقعي.

قسم قوجيلي الفصل لمحورين، ناقش في أولها سؤال هل المؤسسات مهمة؟ حيث افترض الواقعيون أن المؤسسات غير مهمة، وفي المقابل شدد المؤسساتيون النيوليبراليون على أهمية المؤسسات في بناء التعاون. أما المحور الثاني فدرس فيه الكاتب بنية التعاون الدولي طبقًا للمؤسساتية النيولبرالية.

حمل الفصل التاسع عنوان  معقد وهو "ما بعد الوظيفية واليد الخفية للاندماج إعادة "السياسي" إلى نظرية التكامل الإقليمي"، خصصه الكاتب للرد على سؤال هل الدولة إلى أفول؟ فبعد مضي أربعة قرون على ولادة الدولة القومية، فلا تزال  الشكوك تحوم حول كفاءتها وشرعيتها، بوصفها التنظيم السياسي، الأمثل، للجماعة الإنسانية، وفي حين أشار البعض إلى تقلص حجم الدولة ووظائفها، ذهب آخرون إلى حد التنبؤ بقرب زوالها.

يري، قوجيلي، أن من يعتمدون هذه الأفكار، قللوا من تقدير مرونة الدولة، وقدرتها على التكيف مع الأوضاع المحلية والدولية المتغيرة،  "إن الدولة أكثر مرونة مما يفترض المتنبئون بزوالها، وإنها قادرة على تجديد نفسها وإعادة انتج الميكانيزمات التي تمنحها القدرة على التكيف مع الأوضاع المستجدة". ص (270) .

سعى، قوجيلي، إلى برهنة رأيه، نظريًا، عبر التطرق إلى المعركة التي خاضتها الدولة ضد أكثر ظواهر فوق القومية شراسة في المئة سنة الأخيرة: التوحيد الأوروبي.

بدأ قوجيلي الفصل العاشر "السلام الديمقراطي لماذا لا تحارب الدول الديمقراطية بعضها بعضًا"بمقدمة عن ظهور أطروحة السلام الديمقراطي وتطورها، والتي تقوم على فرضية أن الدول الديمقراطية لا تحارب إحداهما الأخرى. وأشار قوجيلي أن أصول هذه الفكرة تعود إلى الفيلسوف الألماني كانط، الذي يُعتبر أول من أشار إلى أن الدستور الجمهوري يمثل خطوة أساسية في سبيل تحقيق السلام الدائم.

ناقش، قوجيلي هذه الفكرة من خلال عدد من المحاور، خصص أولها لاستعراض فرضيات نظرية السلام الديموقراطي، وشرح في الثاني فكرة كيف تكون الديمقراطية سببًا في السلام، وعرض في الثالث الأنموذج المعياري، والنموذج البنيوي للسلام الديمقراطي، أما المحور الرابع فقد أنطلق فيه، الكاتب، من سؤال تجريبي وهو: هل الدول الديمقراطية مسالمة تجاه جميع الدول الأخرى، أم نحو الدول الديمقراطية فحسب؟ وفي المحور الأخير ناقش الكاتب الانتقادات التي طالت نظرية السلام الديموقراطي.

القسم الرابع.. الفهم والمعنى في السياسة الدولية

شهدت بداية ثمانينات القرن العشرين منعطفًا حاسمًا في تاريخ نظرية العلاقات الدولية. وجاء هذا التحول، في مجمله امتدادًا لموجة التغيرات الدولية التي أدت إلى إنهاء هيمنة المقاربة المادية في نظرية العلاقات الدولية. وقد بدأت معالم هذا التغيير في الظهور بعد هجرة باحثين كثر في العلاقات الدولية، إلى حقول الفلسفة وعلم الاجتماع، للاستعانة بأطرها النظرية في تفسير ظواهر العلاقات الدولية. وأسفر هذا التوسع عن ثلاث نظريات قيادية امتلكت خصائص البراديغم: النظرية النقدية الدولية، وبعد الحداثة الدولية، والبنائية الاجتماعية.

أنهت هذه النظريات ما سمي "النقاش الثاني"، وأعلن في الوقت نفسه بدء "النقاش الكبير الثالث" في نظرية العلاقات الدولية، وهو النقاش الذي يقوم بتصنيف النظريات الواقعية والليبرالية ضمن خانة واحدة تحت مسمى المقاربة الوضعية أو العقلانية، فيما يصنف نظريات النقاش الثالث تحت المسمى البديل: بعد الوضعية. وهو ما تناوله، الكاتب، بالتفصيل، في الفصلين الحادي عشر "المقاربات النقدية وبعد الحداثية"، والثاني عشر "البنائية في العلاقات الدولية".

وبعد فإن هذا الكتاب وإن كان موجهًا بالأساس لطلاب الدراسات الدولية، فإن أهميته تتخطى قراءة المتخصصين، فسوف يجد فيه المنتمون إلى اختصاصات أخرى، ما يعينهم على فهم الظواهر الدولية، وبعض القضايا الفكرية في النظرية السياسية والاجتماعية. فقد سعى، هذا الكتاب، لبناء توازن جديد من خلال إعادة النظرية إلى مركز التحقيق العلمي في العلاقات الدولية.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع