لوّحت الحكومة الفرنسية بالأمس بتحريك ملف مجزرة
التضامن، فاضطر النظام السوري إلى التعليق على المجزرة بعد ثلاثة أشهر من إعلان
صحيفة الغارديان عنها. وكان النظام قد تجاهلها، فهو ذو خبرة عريقة في فنون الكذب
والإنكار والإضمار وصناعة الحواجز والأستار، ويعمل بحكمة الإمام الشافعي: إن تسعة
أعشار العقل في التغافل. وهي مجزرة لا ينكرها عاقل، فالضحايا معروفون بالأسماء،
والحفرة يمكن رؤيتها من فوق كوكب القمر.
يجتهد الصحافي جون. جي. ميرشيمر في كتابه الصادر عن
سلسلة كتاب المعرفة الكويتي "لماذا يكذب القادة في السياسة الدولية"،
ويتحرى الأكاذيب لدى الساسة الأمريكان، ويرى أن للكذب واحداً وثلاثين نوعاً من غير
أن يعرضها، لكنه لم يعرّف الصدق في كتابه، فليس سوى إشارة طائشة إلى "فضيلة"
الصدق من إيمانويل كانت والقديس أوغستين.
أمثلة الكاتب كلها من التاريخ الأمريكي الحديث، وهو مثل
كل الأمريكيين يعتقد بالحكمة السياسية الذهبية: الغاية تبرر الوسيلة. وليته توسّع
ففسر لنا عبارة شهيرة للقديس بولس عن الدعوة إلى الله بالكذب، أما التقية لدى
الشيعة فهو لا يعرفها، وكانت رخصة للضرورة، والنجاة من الموت، فصارت ركناً دينياً
عندهم. قيل إن لغة السياسة تم ابتداعها لتجعل الكذب مريئاً والقتل سائغاً.
يسوق الكاتب في كتابه أمثلة من أكاذيب الرؤساء الأمريكيين،
فالمؤلف أمريكي، وهو يسوّغ الكذب الاستراتيجي، والكذب الاستراتيجي يكون في السلم والحرب،
وغايته النبيلة المصلحة الوطنية، وليس كما لدى المسلمين في الحرب فقط، وتمثله
عبارة الأثر: الحرب خدعة، والخدعة عند المسلمين للعدو وليس للصديق!
وساق المؤلف مثالين شهيرين على كذب الرؤساء على الشعب
الأمريكي، هما كذبة الرئيس روزفلت على شعبه بخصوص الهجوم الألماني على السفينة "غرير"
في سنة 1941 لصد ألمانيا عن غزو أوروبا، وكذبة الرئيس بوش على الأمريكيين بشأن
الحرب على العراق، والادعاء بامتلاكه أسلحة دمار شامل. وكل أمريكي شككك بالأسلحة
اتُّهم في وطينته آنئذ، حتى أن الحملة ضد المنكرين للحرب في أمريكا ذكّرت
بالمكارثية في الخمسينيات.
وبان لاحقاً أن العراق كان خالياً من الأسلحة المحرمة
دولياً، وأن مئات آلاف العراقيين قُتلوا بالكذبة، لكن بوش كان ماكراً، فقد استعمل
الحيل اللغوية عند إقراره بالكذب، فقال إنه أخفق في قول الحقيقة. وكان جورج تينيت أبرع
في "الليّ" فقال: إن صدام كان يخدعنا بامتلاك أسلحة وهو منها بريء، وهي
مثل نكتة مسرحية شاهد مشفش حاجة: "ضربني بوشّه على إيدي يا سعادة البيه".
قال النظام السوري على لسان مسؤول في الخارجية: إن التسجيل المسرّب للمجزرة "مفبرك" ومجهول المصدر، ويفتقد أدنى درجات المصداقية"، فالمصداقية أن تكون مذاعة من التلفزيون السوري. وأنكر الأسد من قبل البراميل ساخراً
يقول المؤلف إنه بذل جهداً للعثور على أكاذيب للساسة
الأمريكان، ولا نحتاج إلى جهده للعثور على الأكاذيب عند الزعماء العرب، فقادة
الغرب يميلون إلى شنِّ الحروب من أجل التوسع الاستعماري وزيادة ثروات شعوبهم
ورفاههم، ويستعينون بالكذب على شعوبهم لإقناعهم بالحرب التي ستقتل منهم أيضاً.
أظن أن لفظة "لاينغ" والتي تعني الكذب
الإنجليزية مأخوذة من العربية: "وراعِنا لياً بألسنَتِهم" (سورة النساء).
وإذا كان قادة الغرب يكذبون إذا حزبهم أمر، وحمي وطيس
الانتخابات، فإن قادتنا غير المنتخبين يكذبون ما نعقت على الأيك البوم، وما تلبدت
السماء بالغيوم، لتمكين استبدادهم، وتوطيد أركانهم، فأشطر الحكومات أكذبها.
قال النظام السوري على لسان مسؤول في الخارجية: إن
التسجيل المسرّب للمجزرة "مفبرك" ومجهول المصدر، ويفتقد أدنى درجات
المصداقية"، فالمصداقية أن تكون مذاعة من التلفزيون السوري. وأنكر الأسد من
قبل البراميل ساخراً، وهي موثقة بآلاف الصور!
الكذب مهنة لدى دول الطوق والأسورة، وقد حنث السيسي بوعوده
كلها، وكان أشهرها عدم الترشح للحكم والحفاظ على الأسعار (ويعسر على أغنى الدول
الحفاظ عليها) ومياه النيل، وسواها كثير. وقد لحق أستاذ القانون الدستوري الرئيس
التونسي قيس سعيّد بالرئيسين السوري والمصري وسواهما؛ في نسج بيت العنكبوت بحبال
الكذب وخيوطه.
يساعد الصراع الانتخابي على كشف بعض الأكاذيب، ومن أسف أن الكاتب الأمريكي لم يفرق بين الكذب والغدر، والمكر، والحفاظ على العهد، وهو غير مطلع على التراث الإسلامي والتراث العربي. وكان العرب في الجاهلية ينفرون من الكذب
الكذب شرط لازم لدى كل من يحكم دول الطوق والأسورة. أحد
أسباب مقتل مرسي أنه صدق، ولم يحسن استعمال المعاريض، وفنِّ الكتمان.
يندر أن تجد قصة أمريكية نجا بطلها بالصدق، وآخر صادق أعرفه
هو غاليلو الذي خرج من المحكمة فقال همسا: ومع ذلك هي تدور. وتساهم الصحافة
الغربية في كشف كذب الرؤساء في الغرب، وهم في الغرب يكشفون الوثائق بعد مرور زمن
عليها يقدر بربع قرن عادة، والصحافة عندهم سلطة رابعة، لكنه عندنا فرع مخابرات، أو
في حكمها.
ويساعد الصراع الانتخابي على كشف بعض الأكاذيب، ومن أسف أن
الكاتب الأمريكي لم يفرق بين الكذب والغدر، والمكر، والحفاظ على العهد، وهو غير
مطلع على التراث الإسلامي والتراث العربي. وكان العرب في الجاهلية ينفرون من
الكذب، ولم يكذب أبو سفيان وهو بين يدي هرقل، وكان قد حدّث نفسه به، ولم يكذب عمرو
بن العاص قبل إسلامه بين يدي النجاشي. كان الكذب يحطّ بالمرء حطّاً، وفي حديث نبوي
مشهور أن الفرق بين الإيمان والكفر هو الكذب.
حبل الكذب كان قصيراً وقد طال كثيراً بسبب غياب الحياء
وبعد الشقّة ووعثاء السفر. وكان فرعون يعمل على رأس "الحبل الديبلوماسي"،
وكان سحرته يشتغلون في تحويل الحبال والعصي إلى ثعابين، وقد اكتسب الفراعنة خبرة
كبيرة في تحويل الحبال، فجعلوها حمائم وأرانب وفيلة.
قيل: يكثر الكذب قبل الانتخابات وخلال الحرب وبعد الصيد.
أما في بلادنا، فالكذب وجبة يومية. لا حياة للصادقين سوى بالكتمان والمعاريض، بل
إنّ المخابرات تفحص المعاريض وتحاسب عليها وتفتشها.
ن ينتظر الخبز من العدالة الفرنسية، فسيطول جوعه، فالقانون لا يكون إلا بين قوتين متكافئتين، والشعب السوري ومثله المصري مستضعفان، فالقانون في هذه الحال هو القوة
قيل إن الكذب لا يفيد شيئاً، فهو لا يخدع إلا مرة واحدة،
لكننا مكرهون على تصديق الكاذبين، ليس بحسن خداعهم، وإنما بقوة السيف، فمن يجرؤ
على تكذيب إعلام نظامه يقتل! الأنظمة العربية الجمهورية حوّلت صناديق الانتخابات
من أدوات لاختيار الحكام إلى مصائد لصيد الصادقين المشككين في الرواية الرسمية.
أما من ينتظر الخبز من العدالة الفرنسية، فسيطول جوعه،
فالقانون لا يكون إلا بين قوتين متكافئتين، والشعب السوري ومثله المصري مستضعفان،
فالقانون في هذه الحال هو القوة، كما يقول الفقيه الدستوري المصري عبد الرزاق
السنهوري.
وما تفعله الغارديان هو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء،
يذكر بتجربة كورت ريتشر في تجربة الفئران المغرّقة، التي كانت تموت بعد ربع ساعة
من إغراقها بالماء، وعندما أوهمها صاحب التجربة بالنجدة، جدفت وصارعت الغرق ستون
ساعة، إلى أن خارت قواها فغرقت.
علينا أن نتعلم السباحة، وركوب الخيل، وعلم التفريق بين
سيل الماء وموجة السراب، وصناعة السهام قبل الثلاثة.
twitter.com/OmarImaromar