في السادس عشر من كانون الثاني/ يناير من عام 2016، داهمت قوات الأمن فندقاً في إسطنبول كان يعقد فيه المؤتمر الثاني في نظرية المنهاج النبوي عند الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله، مؤسس جماعة العدل والإحسان المغربية.
فضت الشرطة اللقاء بعد الجلسة الافتتاحية مباشرة، وحينها لم يصدر عن السلطات التركية تصريح رسمي يفسر أو يبرر ذلك الإجراء، أو حتى قرار منع دخول فتح الله أرسلان، نائب الأمين العام والناطق الرسمي لجماعة العدل والإحسان، من دخول الأراضي التركية، بعد أن وصل إلى مطار إسطنبول قادماً من مدينة الدار البيضاء (برفقة كل من السعدية جغلالي والدكتور زكرياء السرتي).
حاول عدد من العلماء والمفكرين الذين كانوا مدعوين للمشاركة في المؤتمر التدخل لتدارك الأمر أو على الأقل لفهم ما الذي يجري، فاتصلوا بمعارف لهم ظنوهم مقربين من صناع القرار، ولكن محاولاتهم ارتطمت بجدار منيع من التكتم.
تردد فيما بعد أن ذلك الإجراء كان استجابة لطلب من السلطات المغربية التي وافقت مقابل وقف المؤتمر وإغلاق مكتب العدل والإحسان في إسطنبول على حظر نشاط جماعة غولن في الديار المغربية، وهي الجماعة التي كانت تنشط في أماكن كثيرة من العالم العربي والإسلامي في مجال التعليم، وما لبثت السلطات التركية أن ربطتها بعد شهور قليلة، في منتصف تموز/ يوليو من نفس العام، بالمحاولة الانقلابية الفاشلة.
سلط ذلك الحدث الضوء على محدودية ما يمكن للحكومة التركية أن تتحمله من أعباء، بعد أن وجدت نفسها في سنوات ما بعد الربيع العربي تتحول رغماً عنها إلى ملاذ لضحايا الاستبداد والطغيان في بلدان الجوار وما يليها، وذلك بعد أن كانت قبيل انطلاق ثورات العرب من تونس إلى اليمن قد تبنت سياسة "صفر نزاعات" وسعت جاهدة للانفتاح على العالمين العربي والإسلامي، سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً.
منذ أن انحازت تركيا إلى الشعوب العربية في حراكها المطالب بالتغيير أواخر 2010 ومطلع 2011 وحتى وقوع تلك الحادثة في فندق ريتاج بإسطنبول، بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنين على انتكاس الربيع العربي بفعل الانقلاب العسكري في مصر، كان عدد كبير من العرب قد لجأوا إلى تركيا وأقاموا فيها وأنشأوا لهم في أكبر مدنها، إسطنبول، مكاتب ومراكز ومؤسسات ومنصات إعلامية وسياسية ينشطون من خلالها في معارضة الأنظمة الحاكمة في بلدانهم، فغدت تركيا "الأنصار" لأولئك "المهاجرين"، وتكبدت في سبيل ذلك الكثير من الأثمان الباهظة من اقتصادها وأمنها.
ليس بخاف على أحد أن استقبال تركيا للمعارضين العرب كان يسبب صداعاً مستمراً للأنظمة الحاكمة في المنطقة، وخاصة في بلدان الثورة المضادة السعودية والإمارات وداخل مصر، التي قضت مضاجعها بشكل خاص القنوات الفضائية المعارضة لها، والتي سمح لها الأتراك بالعمل من داخل تركيا، غاضين الطرف عما تبثه من برامج مناوئة للنظام العسكري في القاهرة بقيادة عبد الفتاح السيسي.
ثم مع تغلب الثورة المضادة، وتمكن الاستبداد من جديد في مختلف أرجاء المنطقة العربية، ما كان ينبغي أن يكون مستغرباً أن تبدأ النخبة الحاكمة في أنقرة في إعادة حساباتها، ولربما رجحت كفة من كان يرى أنه ما عاد بإمكان تركيا الاستمرار في حمل لواء تغيير بات بعيد المنال من حولها وتحمل أعباء ثورات أجهضت وربيع انتكس إلى شتاء قارص.
ولربما مضى هؤلاء بالفعل في خطوات التقارب، ولربما بدأت إجراءات التصالح تحت وطأة احتياجات تركيا الاقتصادية والأمنية، وإلحاح التنافس الإقليمي في منطقة شرقي المتوسط عليها، لولا وقوع ثلاثة زلازل كبرى كان من أهم تداعياتهما إحباط، كل مساعي التقارب والتصالح بين تركيا وأنظمة الحكم في العالم العربي التي خاصمتها، أو ربما تأجيلها إلى حين.
أما الزلزال الأول فكان الحركة الانقلابية الفاشلة ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان ومحاولة اغتياله في الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016، والتي اتهمت بالمشاركة فيها دول عربية، أبرزها الإمارات العربية المتحدة، ربما بتواطؤ من قبل شركائها في الثورة المضادة، وأبرزهم المملكة العربية السعودية.
وأما الزلزال الثاني فكان قرار السعودية، بمشاركة من الإمارات ومصر والبحرين، في الخامس من حزيران/ يونيو 2017 فرض حصار على دولة قطر بحجة علاقاتها الوطيدة مع إيران ودعمها المزعوم للإرهاب، وتدخل تركيا بشكل مباشر دعماً للأخيرة وحماية لها من غزو سعودي محتمل.
وأما الزلزال الثالث فكان جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي رحمه الله في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2018 وتقطيع أوصاله داخل قنصلية المملكة العربية السعودية في إسطنبول على يد فرقة اغتيال مكلفة بشكل مباشر، كما أثبت تقرير لوكالة المخابرات الأمريكية فيما بعد، من قبل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
على الرغم من جسامة هذه الأحداث، إلا أن تركيا وخصومها في المنطقة توصلوا، بسبب عوامل محلية وإقليمية ودولية، إلى أنه ما عاد من المجدي الاستمرار في الخصومة. ولكن، لئن تعود العرب على السلوك الفج والمزاج المتقلب لحكامهم، فاجأ الكثيرين منهم أن يروا صناع القرار في أنقرة ينتهجون فيما بدا لهم سلوكاً مشابهاً، بدءاً بممارسة الضغوط على المنصات الإعلامية المصرية العاملة في الساحة التركية حتى تخفف من نقدها لنظام عبد الفتاح السيسي أو تصمت نهائياً، مروراً بالاستقبال المهيب الذي نظم لرئيس الكيان الصهيوني أثناء زيارته الرسمية إلى أنقرة وغير ذلك من المبادرات والإيحاءات التركية المغازلة لتل أبيب، والتي رأى فيها أنصار القضية الفلسطينية تراجعاً مقلقاً في الموقف التركي الذي عهدوه من أردوغان على الأقل خلال العقد المنصرم، وانتهاء بقرار إغلاق ملف التحقيق في جريمة اغتيال جمال خاشقجي ثم إعادة الاعتبار لقاتله محمد بن سلمان خلال الزيارة التي قام بها الرئيس أردوغان إلى المملكة العربية السعودية في شهر رمضان.
بينما يستمر التباين في الآراء بين من يتفهم القرارات التركية ويبررها بل ويرى فيها حنكة وحكمة، وبين من ينتقدها بل ويستهجنها ويعتبرها نكوصاً عن نصرة المظلوم والتحلي بمكارم الأخلاق، فإن التحولات الأخيرة تؤكد على الحقائق التالية:
أولاً: ليست المثل العليا ولا مكارم الأخلاق هي ما يحكم العلاقات الدولية وإنما المصالح. ولهذا لا يوجد في السياسة عداوات دائمة ولا صداقات خالدة، على خلاف ما يتوهمه أصحاب النظرة العاطفية إلى السياسة الدولية.
ثانياً: على الرغم من أن تركيا فيها حكومة منتخبة إلا أن بعض أهم خصائص النظام الديمقراطي فيها مازالت منقوصة، ومنها سيادة القانون واستقلال السلطة القضائية عن السلطات الأخرى، مما يعني غياب الحماية القانونية غياب النزاهة في الإجراءات القضائية بما يضمن العدالة ويحول دون تغول السلطة التنفيذية، وهو التغول الذي يبرر في كثير من الأحيان باسم المصلحة القومية العليا للبلاد.
ثالثاً: كما في كل الأنظمة الديمقراطية الأخرى، أكثر ما يشغل الأحزاب السياسية المتنافسة على السلطة مع قرب موعد الانتخابات هو ضمان الفوز فيها، ويغدو أولى أولويات الحزب الحاكم البقاء في الحكم لفترة أخرى، وهنا تصبح الشعبوية عنصراً فاعلاً في رسم الخطط ووضع السياسات، وقد يضطر حزب الأغلبية إلى منافسة أحزاب الأقليات الهامشية في بعض شعاراتها المستهجنة وسياساتها المتطرفة.
رابعاً: تكمن قيمة الجهد الذي تبذله المعارضات المهاجرة في كونه تعبيراً عن حراك محلي نشط، فإذا ما خبت جذوة الحراك المحلي فقدت المعارضة في الخارج زخمها وهذا يفقدها بعضاً مما كانت تحظى به من تأييد وترحيب. وفي نفس الوقت إذا ما وهنت المعارضة أو دبت الخلافات بين مكوناتها وانكشفت عوراتهم فإنهم يفقدون مبررات وجودهم، ويتحولون إلى عبء على مضيفيهم، وهذا ما حدث بالذات في حالة الإخوان المسلمين المصريين، الذين كانوا يحظون بتعاطف كبير في تركيا، شعبياً ورسمياً، ما لبث أن تبدد قدر كبير منه بسبب نزاعهم وحروبهم الداخلية. وهذا بالتالي يسهل التخلي عنهم إن لم يؤد إلى التضييق عليهم.
تطبيع العلاقات التركية-السعودية.. ما لم يُقل
لماذا أغلقت تركيا مجالها الجوي أمام روسيا؟
عن الشراكة الوطنية باليمن وألغامها في مرحلة ما بعد هادي