لا تكاد تنتهي صدمة
المصريين مع واقعة
انتحار حتى تؤلمهم واقعة أشد بتفاصيلها، في ظاهرة لم تتراجع
طوال السنوات الماضية، بل تضاعفت بشكل مثير للتساؤل والاستغراب حول أسبابها
المجتمعية والاقتصادية والدينية.
والأربعاء الماضي، فزع
المصريون من مشهد انتحار طالبة بكلية طب الأسنان في مقتبل العمر (23 عاما) من الطابق
السادس بأحد مولات شرق العاصمة القاهرة، ليتبعه حادث انتحار آخر مؤلم لمسن ألقى
بنفسه أمام قطار مترو الأنفاق بمحطة المعادي جنوبي القاهرة، السبت الماضي.
وخلال أسبوع واحد
انتحر رجل (40 عاما) في منزله بمنطقة "أبو النمرس" بمحافظة الجيزة
الأربعاء الماضي، بعد انتحار ربة منزل (31 عاما) بحي بولاق الدكرور بمحافظة الجيزة
13 أيلول/ سبتمبر الجاري.
وفي الوقت الذي تغيب
فيه الأرقام الرسمية الحديثة عن ظاهرة الانتحار في مصر، صنف تقرير منظمة الصحة
العالمية في 2016، مصر بالمركز الأول عربيا في نسب الانتحار، بـ3799 حالة.
لكن السلطات المصرية
تقلل من حجم الظاهرة، إذ أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (رسمي) أن
حالات الانتحار في 2017 بلغت 69 حالة فقط.
وفي المقابل، كشفت
مؤسسات حقوقية عن تصاعد معدلات الانتحار في مصر، وبلوغها ما بين (30- 35) حالة
شهريا، وغالبا ما يكون الشباب حتى العقد الثالث أعلى معدلات للانتحار، في حين بلغت
حالات الانتحار منذ بداية 2021 قرابة 200 حالة.
وأشارت إلى أن مصر ضمن
أكبر الدول العربية تصاعدا في حالات الانتحار بسبب الوضع الاقتصادي والاجتماعي،
الذي يؤدي لإحباط كثير من الشباب، فضلا عن الخلافات الزوجية والعائلية التي تعود
في أسباب كثيرة إلى العامل الاقتصادي.
وحول معدل الانتحار
العالمي، أكدت منظمة الصحة العالمية أيلول/ سبتمبر 2019، حدوث حالة انتحار واحدة
كل 40 ثانية في العالم، بما يعادل 800 ألف منتحر سنويا، وأن 79 بالمئة من تلك
الحالات وقعت بدول ذات دخول متوسطة ومنخفضة.
وعن أرقام وإحصائيات
ونسب الانتحار في مصر، يؤكد رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام
"تكامل مصر"، الباحث مصطفى خضري، أنه "بالرغم من عدم وجود حروب أو
نزاعات مسلحة في مصر، إلا أن هناك تزايدا في حالات الانتحار بشكل غير عادي".
ويضيف
لـ"عربي21": "حسب تقدير (تكامل مصر)، تمثل حالات الانتحار 07. بالمئة
من حجم الوفيات بمصر في آخر 5 سنوات، بمعدل يبلغ 11 حالة انتحار يومي تقريبا".
ووفقا للتقدير الذي خص
المركز "عربي21" بنشر بعض مؤشراته "يمثل الرجال 82 بالمئة من حالات
الانتحار مقابل 18 بالمئة من النساء، وتنتشر حالات الانتحار في الفئة العمرية (21- 35) بنسبة بلغت 84
بالمئة".
جريمة النظام
وفي تقديره لأسباب
تفاقم ظاهرة الانتحار، يقول خضري الخبير في التحليل المعلوماتي وقياس الرأي:
"هناك أسباب مثل ضعف الوازع الديني، واليأس نتيجة الظروف الاقتصادية،
والأمراض النفسية، والضغوط الحياتيه، وعدم الاحتواء الأسري".
ويضيف: "ساهمت
مواقع التواصل الاجتماعي بانتشار تلك الظاهرة، إذ إن الكثير من المصابين بحالات
نفسية، خاصة الفاقدين للاحتواء الأسري، يتأثرون بمساحات التعاطف مع المنتحرين عبر
الإنترنت ما يشجعهم على الفعل".
رئيس "تكامل
مصر" يؤكد أن "الإجراءات السياسية والاقتصادية الفاشلة لنظام، السيسي ساهمت
في انتشار اليأس بين الشباب، والبحث عن الهجرة، حتى ولو كانت غير شرعية".
"بالإضافة إلى انخفاض مستوى الدخل، وارتفاع معدلات البطالة،
وفشل المشروعات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، وتسريح العاملين من المشروعات التي
أغلقت نتيجة تلك السياسات"، وفق خضري.
ويجزم بأنه "ترتب
على ذلك انتشار المشاكل الاجتماعية والأسرية، وارتفاع معدلات الطلاق والتفسخ
الأسري، وتفاقم المديونيات عند قطاع عريض من المصريين"، مبينا أن "كل
تلك أسباب مباشرة للانتحار".
وفي تقديره لمدى
ارتباط تفاقم ظاهرة الانتحار بتنحية النظام للدين ورجال الدين وتشويه الشخصيات
الدينية والمشايخ والدعاة، يقول الباحث المصري: "منذ استيلاء السيسي على
السلطة؛ وهناك حالة من العداء بينه وبين الدين الإسلامي".
ويلفت إلى أن
"ذلك ظهر جليا في صراعه مع شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء في عدة قضايا، مثل
ما يسمى تجديد الخطاب الديني والطلاق الشفهي وتكفير الجماعات السياسية ذات
المرجعية الإسلامية... إلخ".
ويضيف: "نتج عن
ذلك الصراع تضييق النظام على علماء الأزهر المعارضين لآرائه وأفكاره، ومنعهم من
الظهور الإعلامي، وتصدير بعض شيوخ السلطان، ليكونوا هم الواجهة الإعلامية الأبرز في
كل حادث وقضية".
ويخلص خضري إلى أنه
"ترتب على ذلك غياب القدوة الدينية الصحيحة التي يمكن أن تصنع الوازع الديني
الذي يمنع المعرضين للانتحار نتيجة الضغوط أو الأمراض النفسية من الإقدام
عليه".
صورة صارخة للواقع
في اعتقادها، تقول
الكاتبة المتخصصة بشؤون الأسرة والمجتمع فاطمة عبدالرؤوف: "هناك علاقة وثيقة
بين ضعف المشاعر الإيمانية وارتفاع معدلات الانتحار؛ فالمنتحر إنسان تعرض لضغوط
نفسية أو أسرية أو صحية أو اقتصادية شديدة ولم يمتلك الطاقة النفسية
لمواجهتها".
وتوضح في حديثها
لـ"عربي21"، أن "كل إنسان له قدرة معينة على الصمود النفسي بمواجهة
الضغوط، فالظروف أو الأحمالات القاسية لا تعمل في فراغ، وإنما تتفاعل مع قوة الصمود
الذاتية، وتلعب المشاعر الإيمانية دورا كبيرا في تقوية ودعم هذه القوة
الذاتية".
وتضيف أن "قوة
الصمود هذه تتفاعل طرديا بنمو الحالة الإيمانية، رغم أن البعض يدعي أن بعض
المنتحرين يؤدون الصلاة ويشهد لهم الناس بحسن الخلق، وأنه لا علاقة بين الدين وبين
الأفكار الانتحارية، وأن المسألة مرتبطة بكيمياء الدماغ والمرض النفسي" .
الكاتبة المصرية تؤكد
أنه "لا تناقض بين الاثنين، فكون الإنسان مريضا نفسيا لا يعني أنه لا يعالج
إلا دوائيا؛ فقوة المشاعر الإيمانية لا تقل أثرا عن قوة الدواء أو قوة العلاج
السلوكي وغيره من صور العلاجات النفسية" .
من جهة أخرى، ترى
عبدالرؤوف، أن غياب الأجواء الصحية في الأسرة من حوار إيجابي ومشاعر حب ودعم وتفهم
تضغط على الشباب والمراهقين بصورة حادة".
وتلفت إلى أن
"خسائر العالم من الانتحار يمكن احتواؤها داخل الأسرة المحبة، سواء كان الفعل
بسبب تنمر أو ضغوط دراسة أو مشكلة مع الرفاق".
"أما إذا كانت
الأسرة ذاتها تتنمر على الأبناء وتضغط عليهم وتقدم لهم الحب المشروط، وقد يصل الأمر
للإهانة؛ فمن الطبيعي أن تكون هي السبب الأول وراء ارتفاع معدلات الانتحار"،
توضح الكاتبة.
وتجزم بأنه "لا
شك أن الضغوط الاقتصادية واللهاث خلف لقمة الخبز تفقد الأسرة القدرة على القيام
بمسئوليتها"، مشيرة إلى أنه "إذا كان الإنسان الفرد يفقد مشاعره
الإيمانية فيشعر باليأس من الحياة، وقد يصل الأمر لإنهاء حياته ذاتها".
وتشدد على أن
"الأسرة المضغوطة قد تفقد دورها في التربية الإيمانية، بل وتغيب عنها هذه
الأجواء تماما فتكون أسرة يائسة محبطة تكرس لقيم الهروب والضياع".
وتختم عبدالرؤوف
حديثها بالقول: "وما الانتحار إلا صورة صارخة زاعقة لما يحدث وإلا فالكثير
يبدو حيا وهو يمشي حاملا أكفانه".