يقبعان في ظلمة السجن دون تهم واضحة تغلف بكلمة "إرهابية" لإثارة مخاوف المتعاطفين.
صورتهما الأحدث وحدها تحدثت عن معاناتهما في السجن، هي بدت سيدة أخرى تختلف تماما عن تلك قبل اعتقالها وسجنها فبدت شاحبة ومنهكة، وهو بدا يائسا ومحطما إلى حد التفكير بإنهاء حياته بيده.
أي جحيم هذا الذي يعيش فيه
المعتقلون في
مصر والدول العربية وفي دولة الاحتلال التي نفهم أنها عدو.. لكن ماذا عن أقبية
السجون العربية؟
أعاد وجه عائشة خيرت الشاطر الشاحب فتح ملف المعتقلين والمعتقلات في السجون المصرية، فقد ظهر كثير من هؤلاء المعتقلين وكأنهم أشباح أو بقايا أجساد متهرئة ومتعبة ومنهكة بالكاد تستطيع الوقوف على قدميها.
ورغم معاناتها ومرضها وحرمانها من رؤية أولادها لم تطلب من أحد شيئا فقط توجهت إلى خالقها وبقيت ثابتة مؤمنة، ولأنها سيدة تعرف كافة الطرق التي تأخذها إلى نور الهداية والإيمان لم تثر قضيتها شهية المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني واتحادات المرأة الدولية.
قد تبدو قضية برقع المرأة في أفغانستان أكثر أهمية بالنسبة للغرب والمنظمات النسائية الدولية من قضية عائشة الأم (39 عاما) التي تعيش مأساة إنسانية مستمرة داخل السجن بسبب تدهور صحتها ومعاناتها النفسية بسبب حرمانها من رؤية أبنائها عن قرب.
تقول عائشة لمحاميها: "أصاب بالجنون عندما أرى أولادي من بعيد ولا أستطيع ضمهم ولا الاطمئنان عليهم، أنا مريضة ووضعي سيء بالسجن، وصفائح الدم لدي تقل ومحتاجة إلى عملية زرع نخاع".
وتعاني عائشة، الحاصلة على بكالوريوس في العلوم والتربية وتدرس القانون في السجن، والمحبوسة بسجن القناطر للنساء، من فقر الدم ما أدى إلى تدهور وضعها الصحي بسرعة.
واعتقلت عائشة الشاطر عام 2018، مع 18 شخصا آخرين من بينهم زوجها محمد أبو هريرة بتهم تتعلق بـ"الإرهاب". وأدرجت على "قوائم الإرهاب" لمدة 5 سنوات، رغم أن قضيتها لا تزال في أروقة المحاكم منذ 3 سنوات دون حكم.
هي تدفع ثمن أنها ابنة القيادي في جماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر، حيث يتعرض أفراد أسر الشخصيات السياسية العامة للتنكيل فقط لمجرد حملهم لأسماء تصنف وتعد رموزا سياسية. ومن ذلك أسرة محمد البلتاجي وأسرة الرئيس الراحل محمد مرسي وأسرة محمد بديع مرشد عام جماعة الإخوان وغيرهم.
وتحتجز عائشة في زنزانة انفرادية منذ يومها الأول في سجن القناطر، داخل حجرة صغيرة بدون إضاءة أو تهوية أو دورة مياه، فقط دلو للاستخدام بدلا من ذلك، لا تتوافر فيها أدنى المعايير الإنسانية لمعيشة شخص لعدة أيام. وهي محتجزة في الزنزانة لأكثر من 23 ساعة في اليوم، ولا يسمح لها بمغادرة المكان سوى مرتين في اليوم لمدة تقل عن 30 دقيقة.
وحذرت منظمات حقوقية عربية ودولية من تعرض عائشة الشاطر للوفاة الحتمية بسبب احتجازها في
أوضاع غير إنسانية أدت إلى تدهور حالتها الصحية دون السماح بدخول أدويتها.
وتشبه معاناتها ما تلاقيه نحو 143 معتقلة سياسية في السجون المصرية في مقدمتهن هدى عبد المنعم، المحامية بالنقض والعضو السابقة بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، والتي تواجه تهما غامضة تتعلق بـ"الإرهاب" بوصفها عضوا في "الإخوان المسلمين".
فيما وصلت حالة علاء عبد الفتاح المدون والمبرمج والناشط الحقوقي، المولود عام 1981 حد التهديد بالانتحار والموت البطيء.
علاء ابن المحامي والحقوقي المصري أحمد سيف الإسلام والدكتورة ليلى سويف أستاذة الرياضيات بكلية علوم جامعة القاهرة، وكلاهما نشط سياسيا وحقوقيا منذ السبعينات في مصر. وشقيقتاه منى وسناء من أبرز الناشطات في مصر.
اعتقل عام 2011 على خلفية أحداث ماسبيرو، واتهم "بالتحريض والاشتراك في التعدي على أفراد القوات المسلحة وإتلاف معدات تخص القوات المسلحة والتظاهر والتجمهر وتكدير الأمن والسلم العام في أحداث ماسبيرو".
ولد ابنه البكر "خالد" أثناء سجنه على ذمة التحقيق، بعد أن رفضت نيابة أمن الدولة التماسه بالإفراج عنه لحضور ولادة ابنه. وأطلق سراحه فيما بعد.
كان علاء من أبرز المعارضين للرئيس مرسي وجماعة الإخوان، وأمرت النيابة العامة عام 2013 بضبطه وإحضاره ومنعه من السفر بتهمة "التحريض على أحداث عنف" وأُخلي سبيله في اليوم التالي بعد رفضه الإدلاء بأقواله.
وبعد سيطرة العسكر على الحكم اعتقل علاء مرة أخرى عام 2013 بتهمة التحريض على التظاهر ضد الدستور الجديد أمام مجلس الشورى.
وحكم عليه عام 2015 بالسجن لمدة خمس سنوات بتهم التظاهر بدون تصريح. وبعد إكماله 5 سنوات تم الإفراج عنه شريطة أن يوضع تحت المراقبة أي يقضي 12 ساعة حرا و12 أخرى يبيت في القسم كل يوم لمدة 5 سنوات أخرى. إلا أن هذا لم يكتمل فقد اعتقل مرة أخرى وسط حملة اعتقالات واسعة عام 2019 أثناء خروجه من قسم الشرطة وكانت تهمته "نشر أخبار كاذبة" و"الانضمام لجماعة إرهابية". ثم نقل إلى "سجن طرة"، الذي يعرف أيضا بـ "سجن العقرب 2". وتديره نفس الإدارة التي قامت بتعذيبه عند دخوله السجن في بداية اعتقاله، كما توجد بينه وبين هذه الإدارة خصومة قضائية وبلاغات سابقة من علاء ضد إدارة السجن التي تحرمه من أبسط حقوقه كإنسان.
وتصدرت قضية علاء العناوين بعد ساعات من تصريح محاميه بأنه يعاني تعسفا شديدا وهدد بالانتحار بعد أن قضى أكثر من 9 سنوات في السجن على فترات متفرقة منذ ثورة 2011 حتى الآن.
علاء قال في رسالة موجهة إلى أسرته "أنا في وضع زفت ومش هقدر أكمل كدا. مشوني من السجن دا، لو مطلوب إني أموت، يبقى انتحر وخلاص، وبلغوا ليلى سويف (والدته) تاخذ عزايا".
وكانت صورة والدته الدكتورة الأكاديمية وهي تفترش الأرض أمام السجن قد أثارت حملة تعاطف كبرى، وهي تنتظر زيارته والاطمئنان عليه، خاصة بعدما دخل يومه الثلاثين مضربا عن الطعام، احتجاجا على حبسه احتياطيا وحرمانه من الزيارات.
وتصاعد الجدل مجددا عما وصف بأنه انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان خاصة داخل السجون المصرية وتحديدا بحق من يصنفهم الأمن المصري بأنهم معارضون سياسيون، وذلك بعد تصريح علاء اعتزامه الانتحار.
وينتقد حقوقيون مصريون ومؤسسات دولية عشرات الإجراءات التي توصف بـ "غير القانونية" والتي تمارس بحق كل من يبدي رأيا مخالفا للنظام المصري، لكن أكثر تلك الممارسات شيوعا هي مسألة "التدوير" وتعني خروج المتهم من قضية وإدخاله في قضية أخرى بقائمة الاتهامات نفسها مع تغيير رقم القضية وبعض بنود الاتهام ليبقى في السجن إلى أن يتخذ قرار بشأنه، أي إما إطلاق سراحه دون محاكمة أو إحالته للمحاكمة.
وبحسب تقرير صادر عن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عام 2019، فإن عدد السجون التي تم إنشاؤها منذ سيطرة الجيش على مقاليد الحكم وصل إلى 26 سجنا من أصل 68 سجنا في عموم البلاد، وعلاوة على هذه السجون، فهناك 382 مقر احتجاز داخل أقسام ومراكز الشرطة في مختلف المحافظات، إضافة إلى سجون سرية في المعسكرات الأمنية، وفقا للتقرير ذاته.
ومن أسوأ تلك السجون المعلنة "العقرب" الذي شهد عدة محاولات للانتحار نجح بعضها بالفعل.
وقررت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حجب مبلغ 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية وربطتها بتحسن ملف حقوق الإنسان في مصر.
ولم يوقف تجميد المبلغ الذي يشكل جزءا من المساعدات العسكرية لمصر الانتقادات داخل الولايات المتحدة، إذ كتب جوش روغين في مقال له بصحيفة "واشنطن بوست" أن "إدارة بايدن أخفقت بتحقيق وعودها بجعل الدفاع عن الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان أساسا للسياسة الخارجية"، واتهم الكاتب جو بايدن بأنه "قدم الوعود بشكل زاد عن التوقعات بشأن دعم الولايات المتحدة للديمقراطية وحقوق الإنسان على الصعيد العالمي"، "لكن في الشرق الأوسط، على الأقل، لا يبدو أن فريق بايدن مستعد لتطبيق هذه الوعود كما ينبغي، وأحدث مثال على ذلك هو مصر" بحسب روغين.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أكد خلال حملته الانتخابية للرئاسة على أنه "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل" وهو الوصف الذي أطلقه ترامب على السيسي.
ويؤكد المسؤولون المصريون بشكل دائم على أنه "لا يوجد سجناء رأي أو معتقلون سياسيون في البلاد وأن القضاء مستقل وأن كل من في السجون محتجز وفق إجراءات قانونية سليمة، وأن السجناء في مصر يحصلون على أفضل رعاية طبية ونفسية وقانونية وأنها بذلك تنافس دولا أخرى في اهتمامها بحقوق الإنسان".
وفي مقابلة عام 2019 مع برنامج 60 دقيقة الأمريكي، نفى عبد الفتاح السيسي وجود أي سجناء سياسيين في السجون المصرية، إلا أنه وفقا لمنظمات غير حكومية مصرية ودولية، فإن هناك ما يقرب من 60 ألف معتقل سياسي في مصر، منهم محامون وصحفيون وأساتذة جامعات وحقوقيون وباحثون ونشطاء من كافة الاتجاهات تم اعتقالهم - ولا يزال يجري اعتقال آخرين - منذ عام 2013 وحتى اليوم.
هل يفتح وجه عائشة الشاطر المتعب ودموع وتوسلات علاء ومعاناة رفاقهم ملف السجون المصرية، ويفتح عين العالم من جديد على ما يجري تحت جنح الظلام في أقبية السجون بعيدا عن المصالح الاقتصادية وصفقات الأسلحة؟!