يُخطئ من يعتقد بأن من يطرح سؤال العروبة، ومن هو "العربي"؛ ينطلق من خلفية التشكيك، والإساءة، وزرع الفتنة بين أبناء "الأمة الواحدة"، أي العرب بروافدهم المتعددة والمتنوعة.
وبعيدا عن التفتيش في النوايا والحكم المُسبق على أصحابها، ثمة حاجة ماسة إلى إعادة تحديد معنى العروبة، ومن هو العربي.
للهوية طبعا مُكونات عديدة، مُتكاملة ومُتداخلة، لعل أبرزها
اللغة، أي وحدة اللسان. والواقع أن المكانة المحورية للسان في تشكُّل
الهوية وضمان ديمومتها، لا ينسحب على العرب فحسب، بل يعني كل جنسيات بلاد المعمور وأقوامها، بسبب الوظائف والأدوار التي تقوم بها اللغة في توحيد الأمة وصيانة تماسكها. وبذلك تكون المحافظة على اللسان، أي اللغة، من صميم المحافظة على الهوية.
ثم إن القول الرامي إلى وسم العرب بالتعصب للسانهم، أي للغتهم، واعتماد "رابطة الدم" نقطة ارتكاز في تحديد هُويتهم، قول مردود عليه، ويدخل في نطاق السجال الأيديولوجي المُضلّل أكثر منه في خانة الفهم التاريخي المؤسَّس على الموضوعية والحياد؛ لأن اعتبارات كثيرة ومتنوعة دخلت المجال العربي العام، فحولت رابطة الدم إلى واحدة من المقومات التي تقوم عليها الهوية، وتتأسس على قاعدتها مكوناتها.
فمن جهة، أضيف إلى رابطة الدم عنصر الدين، حيث منح الإسلام جميع مكونات الهوية
العربية المشروعيةَ الحضارية َوالثقافية التي كانوا في حاجة إليها، وأمدهم بالروح التي لحمت كيانهم، وضمنت استمرارهم متماسكين وموحدين. ومن جهة أخرى، وحدت علاقات المصاهرة بين الأجناس المختلفة، وتعاظم العلاقات الاقتصادية والتجارية، وتنامي تداخل المصالح وتشابكها؛ أبناء الهوية الواحدة على اختلافهم وتباين مصادرهم. وقد يبدو هذا أكثر وضوحاً في بلاد المغرب، حيث شكل المكون "الأمازيغي"، وهو العنصر الأصيل من حيث التواجد في بلاد المغرب، نموذجا تاريخيا بارزاً للتمازج (Symbiose) الحاصل بين العرب، بحسبهم وافدين ابتداء من القرن الثامن الميلادي، والأمازيغ الذين يجرون وراءَهم آلاف السنين من التواجد والاستقرار في أرض المغرب.
لا بد من التوقف في هذا المقام عند ثنائية " العروبة- الإسلام" في الإجابة عن سؤال العروبة. فبغض النظر هل استقامت هذه الثنائية في المجال العام العربي، أم بقيت متلازمةً مفتوحة على الأخذ والردّ، والفعل وردّ الفعل، فإن الواضح أن "العروبة" وعاءٌ للهوية، و"الإسلام" روح لها، وأن الوعاء، كأي وعاء، يحتاج إلى روح تمنحه المشروعية، وتمدّه بمقومات الحياة وعناصرها. وهذا ما حدث للعروبة حين انصهرت مع الإسلام، أو حتى حين بقي العنصران منفصلين، لكن ظل في الآن معا الواحد يعضّد الآخر، ويُسندُه في الوجود والاستمرار. أما مؤشرات هذا التلازم فكثيرة ومتنوعة، لعل من أبرزها أن "الإسلام" يصعب قراءة نصّه المقدس (القرآن)، وفهم ما يرتبط به من حديث وتراث بشكل عام؛ بغير اللغة التي نزل بها، أي العربية، كما أن مجتمعات مغرب الوطن العربي ظلت حتى عقود قريبة لا تُفرّق بين العروبة والإسلام، وتعتبر كل الناطقين بالعربية مسلمين، خلافا للمشرق حيث التمايز واضح، بسبب وجود مكونات أخرى غير مسلمة، لكن ناطقة باللغة العربية. لذلك، اعتبرت العروبة، بوصفها هوية، جامعةً للأديان (الإسلام والنصرانية واليهودية)، وليست مقتصرة على المسلمين وحدهم، وإلا كيف نفهمُ قيمةَ الأدوار الرائدة التي لعبها كبار أعلام الفن والفكر والثقافة من مسيحيي المشرق في الدفاع عن اللغة العربية، وصَون وجودها، وحماية سلامة استمرارها؟
لا شك في أن العروبة كانت ولا تزال إطاراً جامعاً لمكونات الهوية من المسلمين ومن غيرهم، ولا شك في أن بمقدورها (وإن تعرضت لموجات النقد، والتشكيك، والتقليل من قدرتها في أن تكون فاعلة ومؤثرة في محيطها العام) أن تجعل من العرب أمة مساهمة في العطاء الإنساني، وأن تمدهم بعناصر بناء القوة، وتنزع عنهم مظاهر الخمول والتكلّس لتي ألفّت بواقعهم منذ عقود عديدة.
بيد أن الهوية، والمعنية هنا العروبة، بحسبها إطاراً جماعيا متجدداً وغير ثابت، تحتاج إلى نظر جديد، يُقوي مقوماتها، ويعمق أكثر أواصر أعضائها، ويفتح لهم إمكانيات جديدة للاجتهاد في الفعل الحضاري الإنساني.
ونشدد في هذا المقام على العناصر الناظمة للعروبة كهوية، كما دأب عليها العرب منذ عقود، أي اللغة، والدين، والتاريخ المشترك، لم تعد كافية، على أهميتها، لجعل الهوية مهمازاً للفعل الجاد، والمراكم للإنجازات ذات القيمة الاستراتيجية. فالإنسان العربي في حاجة إلى أن تتعزز هويته بمكونات جديدة تجعل منه عضوا أكثر ارتباطا بها، وأعمق إحساسها بأهميتها، بالنسبة لبقائه واستمراره فاعلاً في مجتمعه، ومتصالحاً مع عالمه الخارجي.. إنه في حاجة لأن يُدرك عروبته بالمشترك المألوف، أي اللسان (اللغة)، والدين (الديانات)، والتاريخ المشترك، بل كذلك بتلك الرابطة التي تجعل منه مواطناً كاملاً، يتساوى مع بني جلده في الحقوق والحريات والواجبات، وله أقران يشعر بالتكافؤ معهم في ما هو متوفر له من الفرص والإمكانيات، وفي صدارة ذلك العدالة وشروط والعيش الكريم.
لذلك، تغدو "المواطنة الكاملة" أحد العناصر المطلوبة بإلحاح لتجديد النظر في العروبة، كهوية ووعاء للعيش المشترك. ولعل من الأهمية بمكان التأكيد على أن ضعف رابطة المواطنة، أو انعدامها في بعض البلاد العربية، عرّض الهوية للوّهن والإضعاف، وخلق الفرقة وحتى الفتنة بين أعضاء الهوية الواحدة، وألجم الفكر العربي وقيّد قدراته على التناظر مع غيره من منظومات الأفكار، وأخّر المجتمعات العربية، وجعلها موضوعات عوض أن تكون أطرافاً في ما يجري في العالم من حولها من تغيرات عملاقة وخطيرة في الآن معا.