انتهى المحلّلون من الاستشفاء من حكّة السؤال، وهو: لماذا نجح محمد علي في بثّ الروح في جسد الشعب
المصري من غير صدمة كهربائية وفشل الآخرون؟
وكنا ظننا كل الظنِّ أن الشعب ميت أو مخدّر، ثم تبيّن لنا أنه خلايا نائمة، ولم يشتفِ كاتب هذه السطور من الأجوبة التي سيقت زمراً، وقد ذكرتْ كل الأسباب مثل: إن محمد علي واحد من أهلها، وإن خطابه شعبي، مع أنه خطاب مطعّم بالكلمات الفرنجية مثل "الجيم" (لعبة)، "أوير" (عارف)، "البريزنتيشن" (تقديم)، ثم وجدتُ سبباً مهماً لم يذكره الآخرون، وهو أنّها مصر، فسررتُ من جوابي على قلة حيلتي، ففي مصر قال المتنبي هذا البيت الخالد:
وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا
وإحدى كبرى المضحكات هي أنْ يحكمها عبد الفتاح الإخشيدي بقبضة حديدية، ومن مضحكاتها أنّ جميع المحللين المصريين والعرب الذين ظهروا وكتبوا؛ عريضو الوساد، وسمّوا الجمعة الثانية بجمعة الخلاص حتة واحدة، بعد جمعة غضب واحدة، وفي الجزائر التي انتهى رئيسها بوتفليقة إلى مومياء حيّة لا تزال
المظاهرات في جمعتها الثلاثين. وفي سوريا سنة تاسعة حرب، وفي هذا نتذكّر هذه الواقعة التي وقعت لسائح أجنبي يقبّل صديقته فوق سفينة في عرض النيل، وأطال القبلة، والفرنجة يأتون إلى مصر من أجل سحر التاريخ والفراعنة والهرم الذي رُسمت صورته على الدولار، وينسبون له في أساطيرهم قدرات شفائية، ويتخيّلون أن الغرام والجماع في الأهرام له قدرات سحرية، فوجد الخواجة مصرياً يربّتُ على كتفه ويقول: ما تخلص يا الله علشان نبوس إحنا كمان!
سقط مبارك في جمعتين ونصف، في ثورة لن يجود الزمان بمثلها. ويبدو أنَّ المصريين المعارضين يتوقعون سقوط
السيسي في مدة مثلها، لكن الفروق كبيرة، فالسيسي مؤسس لعنف جديد ما سبقه به أحد من العالمين، ومصر بلا قيادات سياسية، سوى محمد علي.
تختلف صورة كافور الإخشيدي في التاريخ عن صورته في قصيدة المتنبي، وهي المشهورة. المؤرخون يصفون كافوراً بأنه كان كريماً يقرّبُ العلماء، ويعطف على الفقراء، وأنّ المتنبي جاء من حلب طامعاً في ولاية صيدا، فبخل بها كافور عليه؛ لأنه مأتيٌّ له، متنبئ، وخاف من انقلابه عليه. وكان المتنبي مدحه مرّة، فهجاه وشاع الهجاء.
عاد السيسي من نيويورك بعد أن أدّى واجبه المدرسي، وهجا الإسلام السياسي، وهو هجاء للإسلام، وعلماء الإشارة والرموز والإعلام يعرفون هذا، ووصل إلى القاهرة فوجد شيخاً وقسّاً وامرأة في استقباله، ظهورهم لنا، وجوههم غير معروفة، فالمهم هي الأقفية، والمهم أزياؤهم، بيْدَ أنَّ الشيخ والقسّ مغموران ومجهولان. وقال المتنبي في السيسي الذي عاد وعلى شفته العليا زبيبة، وكانت على جبينه يوماً:
وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُه تطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَّعاديدُ
الطرفان، الشعب وموالو السيسي، يتجنّبان اللقطات البعيدة التي توهم بالحشود الكبيرة، ولقطات المظاهرات قريبة من الظهر، لخداع المشاهد، فالثورة تصوّر من الظهر حتى تخفي الوجوه تقية من المخابرات، والنظام يخفي الوجوه خجلاً، وقد يبرّر المراقب لقطات المعارضة القريبة (الزووم إن) بأنهم يصوّرون بكاميرات الهاتف، ومن الظهر حتى لا تظهر وجوه المتظاهرين رفقاً بهم، بينما النظام يستطيع التصوير بكاميرا، وبلقطات "زوم آوت"، لكنه خائف من قلة حشوده، وهي حشود مدفوعة الثمن مثل كومبارسات الأفلام، وحريص على صورته العظيمة التي هزلت وشابها الضعف بعد المحنة، وبال الزمان على دمنته، وأرجو أن يصيره الله إلى نقمته.
ولم يبيّن لنا أحدٌ أسباب ظهور زبيبة فوق شفة السيسي، هل هو كابوس رآه مثل حلم ساعة الأوميجا؟ ويرى كثيرون (وأنا منهم) أنَّ مصر تقفو على آثار بشار الأسد قصصاً، ويفسرُّ ذلك اللقاء الحار بين "أبو الغيط" ووزير خارجية سوريا الذي كنا نراه في ختام الأفلام العاطفية، فسوريا لديها خبرات كبيرة في الخراب والبطش والتنكيل يمكن تقديمها لمصر، لكن لا أحد يتوقع أن تبلغ مرحلة البراميل، وإن كانت قد بلغت سيناء حقاً وفعلاً، فدُمّرتْ مثل المدن السورية تدميراً. ولم تكن آمال المصريين النازحين في أرض الله الواسعة التي ضاقت بما رحبت كثيرة وواعدة، فألمانيا لم تسحب عناصر سفارتها، ودعتهم إلى توخّي الحذر، وبدرتْ علامات من أمريكا على لسان مساعد وزير الخارجية للشرق الأدنى، لكنها ناعمة، كأنما قال المتنّبي في الثورة المصرية الثانية هذا البيت الذي يكرر مراسلو الفضائيات شطره الأول في كل عيد، راثين حال العرب المحرومين من الولاية:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديد
وكأنما وصف المعارضين بالخارج المشتاقين إلى مصر:
أمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ لَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ
وكأنما قال في السيسي عندما اغتال مرسي:
أَكُلَّما اغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ
وقال في السيسي عندما قال: ح تبقى قد الدنيا وتشوفوا العجب:
جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ
ويقابل قول محمد علي في السيسي، قول المتنبي في قبض الموت أرواح جند السيسي بملقط حتى لا تتنجس يده:
ما يَقبِضُ المَوتُ نَفساً مِن نُفوسِهِمُ إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ
ويستحق السيسي هذا الوصف، وكذلك الشعب المصري في الشطر الثاني:
صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ
وفي حبّ السيسي للفكّة وذلّه للنخاس الأمريكي:
أَم أُذنُهُ في يَدِ النَخّاسِ دامِيَةً أم قَدرُهُ وَهوَ بِالفَلسَينِ مَردودُ
وفي توزيع كراتين المعونة الغذائية وكأن الشعب قد تعرض إلى زلزال:
جَوعانُ يَأكُلُ مِن زادي وَيُمسِكُني لِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصودُ
السؤال: هل يستطيع السيسي باني القصور وفاتح البحور، وصاحب الكفتة، أن يقرأ بيتاً من القصيدة، تخيّلوه يستشهد في إحدى خطبه ببيت شعري من هذه القصيدة! ح تشوفوا العجب؟
من أعاجيب مصر التي رأيناها أن فناناً أمسى قائداً للثورة؛ لأن السيسي استطاع أن يدمّر نخبتها، ويلجم أعلامها وشيوخها، وهو ما يثير غيرة بعض قادتها في الخارج، وقد انتقل قائد الثورة الفنان من التمثيل إلى الإخراج، فهو يدير المشهد السياسي، ويعطي "الأوردر" للحكومة المصرية فتغلق الشوارع وتمنع المظاهرات، ويثير لها الرعب، ويجعل رئيسها يخرج ليخطب ويهتز مثل فيفي عبده من غير ألحان، مع أنه ما يتهزّش.